رأي

جمال المحافظ: “البحث عن الحقيقة” و”حراسة الذاكرة” بالصحافة

كاتب صحافي/ أستاذ باحث في الإعلام

 

يبدو  أن المسافة ما بين “البحث عن الحقيقة”، التي هي الهدف الرئيس للصحافة والاتصال، تجعل من الصحافي ينتقل من ” حارس للبوابة” إلى ” حارس للذاكرة ”  في تجلياتها المتعددة، لكون الصحافة تسهم بطريقة إرادية أو غير ارادية في تجسير العلاقة بين الحقلين، لخصوصية العمل الصحافي على مستوى التحقيق والتقصي أولا، وبالأسئلة الحارقة للرأي العام حول مختلف قضايا المجتمع ثانيا.

فعلى الرغم من المتغيرات المتعاظمة نتيجة التطورات التكنولوجية وفي ميديا الاعلام والاتصال، ما زالت الصحافة كمهنة مرتبطة بحقول أخرى منها ما هو حقوقي وسياسي وقانوني وأخلاقي، وبذلك بقيت الصحافة والاعلام تعبيرا حقيقيا عن مدى قوة أو هشاشة فضاء الحرية في بلد من البلدان، وظلت معها وظيفة الصحافي تتمثل في البحث عن الحقيقة في أبعادها النسبية والمتعددة والمفتوحة على كل الاحتمالات، لأن هذه الحقيقة واحدة مطلقة، أو حقائق في حدوها لا تتعرض للتغير والتحول.

   وإذا كان “حارس البوابة”  الإسم الذي يطلق على الصحافيين الذين يقومون بجمع الأخبار، ويعتبرون أيضا مصدرا لها ، ويقومون بتحديد المعلومات وتحرير الأخبار، مطالبا بأن يحول وقائع المجتمع والتجارب الإنسانية إلى معطيات خبرية، فإن مكونات الرأي العام تنتظر منه كذلك أن “يناضل” لنشر الآراء حول مختلف الأحداث وتعميم المعلومات والمعطيات، وذلك بعد تدقيقها والتأكد من مصادرها ومصداقتها، مما يساهم من موقعه كصحافي في ادماج الأفراد والجماعات في سياقات الحياة وسيرورتها، حتى يتمكنوا من تشكيل آراءهم وتوجهاتهم حول قضايا المجتمع المختلفة.

   بيد أنه إذا كان الصحافي محظوظا، فإنه يمارس عمله في بلد يسمح له بقدر كبير من الحرية، في أن يقول الحقيقة كما يتمثلها ويقرأها هو، وأن يقدم وصفا أو تفسيرا دقيقا للأحداث في المجتمع بقدر إمكانه، اعتبارا لأن الصحافة هي فن الممكن – كما هو شأن السياسة – التي وصفها القائد الألماني، أوتو فون بسمارك  ( 1815 – 1898 )، بأنها هي ” فن الممكن، القابل للتحقق، وفن الأفضل المتيسر”.

 وبناء على ذلك، تتطلب ممارسة مهنة الصحافة قدرا كبيرا من التكيف مع شروط وسياقات الواقع خاصة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لكن بدون أن يصبح هذا التكيف خضوعا لما يتعارض مع حقائق الأشياء، والمعايير التي تتطلبها المهنة وأخلاقياتها. فمن لا يقتنع بأن الصحافة فن للممكن، فإن ذلك قد يجعله يصطدم بمختلف أشكال المقاومة، ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية والمالية.

   فما يقوم به الصحافي لا يكون معزولا عن الضوابط والمعتقدات والقناعات السائدة داخل المجتمع. لكن بصفة عامة، تظل الصحافة والإعلام، عبارة عن نشاط فكري وثقافي وإبداعي له خصوصيته، وله قوانينه ونواميسه، المعلن منها والمضمر، وله كذلك أساليبه وطرق عمله، ومن ثمة فإن القيمة المركزية للصحافة تظل مرتبطة بالعنصر البشري.

   وعلى صعيد آخر، قد تشكل الكتابات الصحافية مرجعا مهما في حفظ الذاكرة، فمثلا ما كانت تنشره الصحف المغربية، ما بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي بجرأة كبيرة وحرفية، حول القضايا التي كانت تندرج آنذاك في ” دائرة المحرمات”، و”خطوطا حمراء” مرسومة وغير مرئية للصحافة، فرض على الصحافيين ممارسة “الرقابة الذاتية” لدى معالجة هذه الأحداث.

  وهكذا تنافست وسائل الاعلام خاصة الصحافة المكتوبة، على تقليب صفحات الماضي، بمواجعه، وذلك من خلال التركيز على وقائع ظلت طي الكتمان، ( الاغتيالات التي طالت بعض رجالات المقاومة التي جرت عقب  الاستقلال، وعناصر من منظمة “الهلال الأسود” ومحاكمة قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1963، واختطاف المهدى بن بركة، وأحداث ثالث مارس 1973، واغتيال القائد الاتحادي عمر بنجلون، ومعتقل تزمامارت..”وكان لافتا للانتباه الإشارة في هذه الملفات الصحافية المعززة بشهادات وصور إلى أشخاص رحلوا وآخرين ما زالوا قيد الحياة.

  واستأثرت هذه الحفريات الصحافية، في إبانها باهتمام كبير من لدن الطبقة السياسية وفئات واسعة من الرأي العام الوطني والدولي. وساهمت إلى حد كبير في إحداث نقلة نوعية في التفكير والبحث، رافقه توسع ملحوظ في قاعدة القراء، وهو ما أدى إلى انتعاش مهم في روجان الصحف. كما عرف الأداء المهني، تطورا ملحوظا، وأصبح الاعتماد بكثرة على قواعد المنهج التوثيقي، في صياغة وتحليل المادة الصحافية. وتعزز المشهد الصحافي والإعلامي بالتحاق جيل جديد بالمهنة من المتوفرين على تكوين عالي.

   وإذا كانت الصحافة قد تمكنت من نفض الغبار عن ملفات أحداث الماضي، وطرح تساؤلات حول ظروفها وتداعياتها، فإنها أثارت بالمقابل تساؤلات وجدلا واسعا، حول وظائفها، ودور الصحفي في تناول هذه الأحداث، التي عادة ما تعتبر اختصاصا للمؤرخين الذين تقمص البعض منهم دور الإعلامي، رغم أن تحرير المادة الصحافية، تختلف عن الكتابة التاريخية، نطرا لتعامل الأولى الفوري مع الأحداث واعتمادها أدوات ومنهجية صحافية في التعاطي مع أحداث ووقائع الماضي، وتحويلها بأسلوب مبسط إلى مادة إعلامية تكون في مستوى إدراك أوسع فئات القراء.

  وساهمت التحولات العميقة التي شهدها المجال السياسي والاجتماعي والحقوقي والثقافي، مطلع وأواسط تسعينات القرن الماضي، نتيجة المتغيرات الدولية والوطنية، بشكل جلي في خلق هذه الدينامية الاعلامية، التي  أفرزت زيادة في عدد المنابر الاعلامية، نجم عنه توسع في العرض الصحافي الذي كانت تحتكره منذ بداية الاستقلال، الصحافة الصادرة عن الأحزاب السياسية، وهذا فتح أبواب التنافس على مصراعيه، وخلق واقعا مهنيا جديدا، أدى إلى خلخلة يقينيات سادت لردح من الزمن حول بعض فصول وأحداث الماضي، والتي أعيد ترميمها في ملفات نشرتها الصحافة، وأسهمت بشكل أو آخر في ملء النقص الحاصل في الكتابة عن الذاكرة، وجعلها مساعدة على كتابة التاريخ.

   إن استعادة الذاكرة في الصحافة، ومن خلالها، يعد شأنا عاما وحاجة مجتمعية كذلك، لأن ذلك يساهم في بناء التاريخ الوطني المشترك، لكن مع التأكيد على أن التاريخ كعلم، يعتمد في التعاطي مع أسئلة الذاكرة التاريخية، على مناهج وقواعد محددة.

 وإذا كانت الكتابات الصحافية، تسعف الباحث في الاطلاع على وقائع من التاريخ السياسي والاجتماعي والإعلامي، فإنها غالبا ما تخضع هذه المساهمات، لقراءات متعددة، وتحليلات مختلفة قد تخرج أحيانا عن سياقها أحيانا.