رأي

عماد الدين بوعسيلة: من صاحب الشرطة إلى معهد العلوم الأمنية.. كرونولوجيا تشكل البنية الأمنية المغربية

يمتد تاريخ المنظومة الأمنية في المغرب على خط زمني طويل تتداخل فيه رهانات السلطة مع تحولات المجتمع، محدثا بذلك نسيجا معقدا يربط بين آليات الضبط الرسمي والبنى السياسية والاجتماعية التي ساهمت عبر القرون في رسم معالم الدولة وطرق حضورها. كما يكشف هذا الامتداد التاريخي عن قدرة المغرب في إعادة صياغة أدواته على مستوى الحماية والتنظيم والتوجيه، حتى أصبح الأمن إطارا تأسيسيا لا يقاس به تنظيم المجال العمومي فحسب، بل تستشف من خلاله أيضا درجة نضج الدولة ومؤسساتها. ومنذ ظهور منصب صاحب الشرطة في العهدين المرابطي والموحدي، تبلورت الوظيفة الأمنية كوظيفة سيادية لا تستمد مشروعيتها من قوة التنفيذ وحدها، بل من قدرتها على تكريس الشرعية السياسية وصون تماسك الجماعة، في تفاعل متناغم بين القانون والعرف، وبين حضور الدولة وتصور المجتمع لها.

وقد شكل منصب صاحب الشرطة، الذي تولاه عادة رجال متمكنون من أحكام الشريعة والفقه، ركيزة محورية ضمن منظومة الحكم إلى جانب القضاء وديوان المظالم وتنظيم العمران والأسواق. الأمر الذي جعل الوظيفة الأمنية تتداخل مع السلطتين القضائية والسياسية، بل ومع المرجعية الدينية ذاتها، في تجسيد لحضور الدولة في تفاصيل الحياة اليومية. ومع مجئ الدولة المرينية، أعيد إنتاج هذا الدور تحت تسمية الجنادرة، وهو مصطلح فارسي الأصل يشير حملة السلاح؛ الذين اضطلعو بتنفيذ العقوبات تحت إشراف المزوار في العاصمة، أو القاضي والمحتسب في الأقاليم، في إطار بنية أمنية قائمة على تدرج هرمي واضح. وتنوعت المهام الأمنية آنذاك بين حماية المجال الحضري، ومراقبة الوافدين، وتنظيم الدخول والخروج عبر إغلاق أبواب المدن كما في فاس ومراكش عند فترة الغروب، وملاحقة مرتكبي المخالفات الأخلاقية أو الدينية، وتطبيق العقوبات على كل من يخل بالنظام العام. كما أن السلطة الأمنية بدورها كانت تخضع لآليات ضبط داخلية، تعاقب بموجبها أي تجاوزات صادرة من عناصرها. وفي هذا الإطار برز منصب المزوار الذي أوكلت إليه مهام الإشراف على شؤون السجناء، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وإعداد التقارير حول المشتبه فيهم، وتنفيذ الأحكام. ومع ذلك، بقي القرار القضائي النهائي بيد السلطان أو القاضي، في صورة مبكرة للتنسيق بين العمل الاستخباراتي والرقابة القضائية.

كما لم يقتصر تنظيم الأمن في هذه الفترة على أجهزة الدولة المركزية، بل استند أيضا إلى وسائط اجتماعية مساعدة مثل المقدمين والجراية الذين تولوا نقل الأخبار داخل المدن، بينما أحاطت الأحياء الكبرى بأسوار تغلق ليلا لضبط حركة الغرباء. هذا الحرص الذي يكشف عن وعي مبكر بضرورة حماية الموارد الاقتصادية؛ ولا سيما مخازن الحبوب خلال فترة الأزمة والمجاعة، التي قد تتحول، كما أشار المؤرخ محمد بن طيب القادري، إلى لحظات تنفلت فيها معدلات السطو والعنف، كما حدث في فاس سنة 1737.

في مقابل كل هذا، ظهرت في مناطق السيبة أي المناطق الخارجة عن سلطة المخزن؛ صيغة موازية للأمن تعرف بـاسم الزطاطة؛ وهي آلية للحماية تنشأ من داخل البنى المحلية لتأمين مرور القوافل والمارة ببدل مالي. وقد لعب عدد من رجال الزوايا والشرفاء دور الوسيط الأمني في هذه العملية، مستفيدين من مكانتهم الرمزية وقدرتهم على التفاوض مع القبائل وقطاع الطرق. وفي حالات معينة، امتد هذا الفعل ليشمل قبائل كاملة تعين ممثلا منها لمرافقة القوافل؛ بل وقد تحولت بعض الشخصيات البارزة مثل القائد العيادي الرحماني إلى فاعلين أمنيين محليين، يجسدون ازدواجية السلطة في فضاءات النفوذ غير الخاضعة كليا الى سلطة الدولة.

ومع استقرار الدولة العلوية، تعمقت الصلة بين السلطة المركزية والمؤسسات الأمنية، فأصبح الشيوخ والمقدمون امتدادا إداريا للمخزن داخل المجتمع، وآليات يومية لمراقبة السكان وضبط المجال المحلي. وازدادت الحاجة إلى الأمن مع اتساع التحديات العسكرية والسياسية، مما أدى إلى بلورة شبكة ضبط اجتماعي أكثر انتظاما في سبيل صون الهيبة السلطانية وحماية الاستقرار الداخلي.

أما التحول البنيوي الأكبر فقد جاء مع فرض الحماية الأوروبية، حيث انتقل الأمن من منطق العرف والأعراف المحلية إلى منطق المؤسسة الحديثة. فقد أُنشئت مديريات وأقسام متخصصة، واعتمدت تقنيات الشرطة العلمية والقضائية، ودخل المغرب زمن الإدارة البيروقراطية بالمعنى الويبيري، حيث تمارس السلطة عبر أجهزة منظمة وقواعد مؤسسية دقيقة.

وبعد الاستقلال سنة 1956، واجه المغرب تحدي إعادة تركيب جهاز أمني وطني يجمع بين الإرث المخزني التقليدي والهياكل الإدارية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. وأسفر هذا التفاعل عن تأسيس منظومة أمنية حديثة، تجسد السيادة الوطنية وتعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع وفق أسس قانونية ومؤسساتية جديدة، مع توسيع صلاحيات الشرطة وتطوير وحدات التدخل وضبط المجال العام.

و في مستهل مطلع الألفية الثالثة، دخلت المنظومة الأمنية المغربية مرحلة من التحول العميق، إذ تجسدت هذه التحولات في سلسلة من المبادرات الهادفة إلى تعزيز كفاءة الأجهزة الأمنية وتحقيق الاستقرار الداخلي. و قد كان افتتاح المعهد العالي للعلوم الأمنية في مدينة إفران في 5 ديسمبر 2025 أحد أبرز هذه المبادرات، حيث جاء تتويجا لجهود مستمرة لتحديث النظام الأمني الوطني. فهذا المعهد لم يكن مجرد إضافة أكاديمية، بل أصبح حجر الزاوية في بناء نموذج أمني معرفي متقدم يربط بين البحث العلمي، التكوين المتخصص، والتطبيقات العملية، بما يعكس التوجه الإستراتيجي للمملكة نحو الارتقاء بآليات العمل الأمني وتطوير مقاربات فعالة لمواكبة التحديات المتزايدة.

وقد جاءت هذه المبادرة ضمن رؤية شمولية تعتمد على دمج التكنولوجيا الحديثة في المنظومة الأمنية، إذ أصبحت تقنيات التحليل المعلوماتي والمراقبة الذكية ركائز أساسية في مواجهة مختلف التهديدات. ولم يعد جهاز الأمن في المغرب يشتغل ضمن الإطار التقليدي لضبط النظام، بل صار يعتمد بشكل متزايد على أدوات تكنولوجية متقدمة تتيح تحليلا دقيقا للمعطيات وتمكن من استباق المخاطر. وهو الأمر الذي سيسهم في إحداث تحول يعزز فاعلية التدخل الأمني، ويعمل على تسريع وتيرة معالجة الملفات، ويقوي القدرة على مكافحة الجريمة بمختلف صورها.

انسجاما مع ذلك، أسهم التحول الرقمي في إنشاء المركز الوطني لمكافحة الجريمة المنظمة بوصفه منصة متكاملة توحد القدرات الاستخباراتية المحلية والدولية. إذ أصبح يعتبر هذا المركز ركيزة أساسية في مواجهة التهديدات المعقدة، سواء المرتبطة بالجريمة السيبرانية أو بالإرهاب. وبفضل الاعتماد على تقنيات حديثة، تمكن المركز من تحقيق نتائج ملموسة، أبرزها تفكيك شبكات إجرامية وخلايا إرهابية، وإحباط عمليات كانت في مراحلها الأولى.

وتوازيا مع هذه التطورات الملحوظة، عززت مديرية الأمن الوطني انفتاحها على التعاون الدولي، سواء مع الإنتربول أو أجهزة الأمن الأوروبية، ما أفضى ألى بناء منظومة تنسيق قوية مكنت المغرب من ترسيخ مكانته كفاعل رئيسي في أمن المنطقة. وقد أثمر هذا التعاون إلى تحقيق نتائج ملموسة على مستوى مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة عبر الحدود، ليصبح المغرب نموذجا يحتذى به في هذا المجال.

ورغم كل التحديثات التقنية والمؤسساتية، حافظت المنظومة الأمنية المغربية على خصوصية توازنها بين إرثها التاريخي العريق في مجال الأمن وبين متطلبات العصر. فالأجهزة الأمنية ظلت محافظة على التقاليد المهنية والصرامة القانونية، وفي الوقت نفسه ملتزمة بأحدث المقاربات العالمية في حقوق الإنسان وتدبير الفعل الأمني.

وفي ضوء هذا التجديد الشامل، تبرز الحاجة إلى أن يواكب النظام الداخلي والآليات التنظيمية ومن بينها شروط الولوج هذا التطور، بوصفها جزءا من المنظومة التي ينبغي أن تنسجم مع التحولات المعاصرة. وتأتي الإشارة هنا إلى مسألة الانتقاء فقط كمثال لطبيعة الجوانب التنظيمية التي تحتاج إلى مراجعة، إذ إن بعض شروط الولوج ما تزال تستند إلى تصورات أو مقاربات كلاسيكية لم تعد ملائمة للعصر الحالي، سواء تعلق الأمر بالتركيز على معايير شكلية لا سند علمي لها أو مستندة إلى نظريات نفسية قديمة لم يعد لها حضور فعال في العلوم الحديثة.

فبعض المقاربات التقليدية في فهم السلوك البشري مثل النظريات السلوكية الضيقة أو التفسيرات الديناميكية النفسية ذات الجذور الفرويدية أو نظرية التعلق أو بعض النماذج المرضية رغم قيمتها التاريخية، لم تعد قادرة على تفسير التعقيد النفسي والسلوكي للإنسان بالمنهجية التي يتطلبها العمل الأمني الحديث. لهذا أصبحت المقاربات المعرفية السلوكية CBT أكثر اعتمادا اليوم باعتبارها إطارا علميا معاصرا يركز على تحليل أنماط التفكير وتنظيم الانفعالات وتطوير مهارات التعامل مع الضغوط، بما ينسجم مع احتياجات العمل الأمني المتجدد. ويأتي ذكر هذه النماذج فقط لتوضيح طبيعة التحولات العلمية التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار ضمن المسار العام لتحديث المنظومة.

وفي خاتمة القول، يتضح جليا على أن المنظومة الأمنية المغربية قد حققت تحولا شاملا يجمع بين تقوية القدرات المعرفية، واعتماد التكنولوجيا المتقدمة، وتعزيز التعاون الدولي، مع الحفاظ على التقاليد المهنية والالتزام بالحقوق الإنسانية. ومن خلال افتتاح المعهد العالي للعلوم الأمنية وتطوير أدوات التحليل والمراقبة، استطاع جهاز الأمن الوطني أن يستجيب بفعالية للتحديات الأمنية المتسارعة، وأن يعزز دوره في تحقيق أمن المملكة والمساهمة الفاعلة في استقرار المنطقة.