التفتت من ورائي ، فإذا بي أري ستا وستين سنة تمضي كما تمضي البرقة في ليلٍ ممطر، لا تُمهل القلب أن يلتقطها، ولا العين أن تُؤرِّخها.
سنواتٌ عبرت كأنها حلم طويلٍ يتناوب فيه الضوء والظل، الفرح والخذلان، اليقين والدهشة.
ومع ذلك، حين أنظر في المرآة، أحس أنني ما زلت أنا… ذاك الطفل الذي كان يحلم في الأزقة القديمة، والشاب الذي كان يراهن على الغد. لم يتغيّر فيّ الجوهر، تغيّرت الوجوه والمواسم والسرعة من حولي، أما الداخل، فبقي هو ذاته، يُصدّق أن ما بين أول العمر وآخره ليس إلا اختلافًا في النبرة، لا في النغمة.
غير أن استعراض الذكريات بتفاصيلها الصغيرة، بتلك الوجوه التي مرّت، والأماكن التي عبرت، والروائح التي لا تزال تسكن الذاكرة، يجعل القلب يدرك أن جزءًا كبيرًا من العمر قد وَلّى. لم يرحل دفعة واحدة، بل تسلّل كما يتسلّل الرمل من بين الأصابع دون أن ننتبه.
لقد فهمت اليوم أن الحياة ليست زمناً يُقاس بالسنوات، بل شعوراً يُقاس بالحضور. فما أكثر من عاش طويلاً دون أن يترك أثراً، وما أعمق من عاش لحظة فكانت عمراً كاملاً.
وأنا أستعيد ثمانٍ وثلاثين سنة من الحياة الزوجية مع رفيقة الدرب، تملؤني الدهشة: كيف مرت هذه السنين؟ كيف انسابت الأيام بيننا ونحن نبني تفاصيل العمر لبنة لبنة؟
كانت ثمانٍ وثلاثين سنة تشبه مقاماً موسيقياً طويلاً تتبدّل فيه الطبقات دون أن يفقد الانسجام.
في الزواج، كما في الفن، لا قيمة للمدة، بل للنغمة التي ترافقها، وللصمت الذي يحرسها من الضجيج.
إنها رحلة من المشاركة، والاحتمال، والحنان، والضحك الخافت في الليالي المتعبة.
رحلة جمعت بين التجربة والصبر، بين المودة والدهشة، بين ما كان حلماً ذات يوم، وما صار واقعاً نعيشه دون أن نملّ منه.
إنها حياة مشتركة علمتني أن المعنى لا يُصنع بالكلمات، بل بالتراكم الصامت للأيام، حين تصير التفاصيل الصغيرة شهادة حب لا تحتاج إلى إعلان.
وحين أستحضر ماضي العائلة، أجدني أعود إلى الأصل الذي لا يزول أثره.
إلى الوالد الجليل محمد التطواني، ذاك العالم الصوفي الورع، مدرسة في الخلق والعلم والصفاء، الذي علّمنا أن المعرفة لا تكتمل إلا بالتقوى، وأن الرفعة لا تكون إلا بالتواضع.
كان حضوره هادئاً، لكنه نافذٌ في القلوب. علّمنا أن العلم لا يُقاس بصفحات الكتب، بل بنقاء السريرة وصفاء النية، وأن أقصر طريق إلى الله هو الصدق في المعاملة والمحبة في القول والفعل.
لا أزال أذكر خطواته المتزنة وصمته المضيء، وكأن الزمن حين كان يمرّ به، كان يزداد طهراً لا شيخوخة.
وإلى أمي فاطمة، التي كانت رمز الحنان وصوت الدعاء، تلك التي لم تكن فقط أمًّا، بل كانت رحمةً تمشي على الأرض، تحمل الدار بنورها، وتملأ القلب بطمأنينتها.
وإلى إخوتي وأخواتي الذين ظلّوا نجوم الذاكرة المضيئة:
أسماء، باهية، ماري، آمنة، رجاء، كلٌّ منهنّ تركت في قلبي لوناً من العطف والمساندة، من الضحك والمشاكسة الجميلة، وفي كل اسمٍ حكاية دفء لا تندثر.
أما أحمد ومحمد، فهما ظلان يرافقانني في كل مرحلة، بين الجدّ والمزاح، بين الحضور الغائب والغياب الحاضر.
هؤلاء جميعاً ليسوا فقط أفراداً من العائلة، بل معنى ممتدّ للحياة نفسها، هم الذين صاغوا إيقاعها الخفي، وأعطوها توازنها بين القلب والعقل، بين الحلم والواقع.
وحين أسترجع أجواء البيت العائلي، أجدها تنبض في ذاكرتي ببساطتها وصفائها.
كان بيتنا قبلة للمحبين، وصالوناً للعلماء والأصدقاء، يلتقي فيه القلب بالعقل، والعلم بالمحبة، والحديث اليومي بالحكمة العتيقة.
كانت الجدران تشهد على ليالٍ عامرة بالذكر والقراءة والنقاش، وكانت المائدة تجمع بين النعمة والدعاء، وبين الخبز البسيط وكرم الروح.
في ذلك البيت، تعلمت أن البركة ليست في الكثرة، بل في النية، وأن الصفاء حين يسكن القلوب، يصير البيت جنة صغيرة على الأرض.
وفي لحظة من لحظات التحوّل العميقة في حياتي، حين اشتدت الأسئلة وتقاطعت المسارات، اهتديت إلى فكرة تأسيس مؤسسة الفقيه التطواني.
كانت تلك التجربة نوراً في منعطف العمر، كأنها تجسيد جديد لتلك الروح العائلية التي تربّيت عليها، ولكن في فضاء أوسع، يخاطب الناس من كل المشارب والأطياف.
لقد كانت المؤسسة جسرًا بين المعنى والعطاء، بين الفكرة والناس، بين الفكر والوجدان.
ومن خلالها أدركت أن الروح حين تُغذّى بالحوار والتنوّع، تُشرق من جديد.
لقد أنارت لي الطريق نحو عوالم متعددة، وعلّمتني أن الاختلاف حين يُدار بالحكمة يصير مصدر غنى، وأن الثقافة لا تزدهر إلا حين تتّسع لغيرها.
كانت المؤسسة، في عمقها، استمراراً لتلك المدرسة الأولى التي كان يمثلها بيتنا: بيت العلم والصفاء والمودة، لكنها صارت أيضاً نداءً مفتوحاً للمعنى في زمنٍ يضج بالضجيج.
وحين يتأمل المرء هذا كله، يدرك أن الحياة — في عمقها — ليست سوى قصة قصيرة داخل مسلسل طويل.
كل حلقة منها تحمل درساً في المعنى، أو محاولةً لفهم الذات، أو سؤالاً معلّقاً في فضاء لا يُجاب.
ولعل أجمل ما فيها أنها لا تمنحنا اليقين، بل تمنحنا دهشة الاستمرار.
أن نعيش ونحن نعلم أن النهاية مكتوبة، لكننا نواصل العزف، لأن الوجود نفسه نوع من الفن، والفن لا يُقاس بالنتائج بل بالنبض الذي يرافقه.
وفي لحظة الالتفات تلك، حين ترى العمر من ورائك كأنه طريق من الضوء والعتمة، تدرك أن أجمل ما في الحياة ليس ما عشناه، بل القدرة على أن نحكيه بمعنى جديد.
فالزمن، في جوهره، أفقٌ يتكرر بأشكال مختلفة، ونحن من يمنحه الدلالة التي تليق بنا.
أما الذاكرة، فهي ليست بيتاً لما مضى، بل لغة نعيد بها بناء أنفسنا كل مرة.






