سياسة واقتصاد

الدخول المدرسي بقصر "ماتنيون"

عبد الرفيع حمضي

 زوال يوم الخميس 5 شتنبر ،تنفس الفرنسيون الصعداء وهم يتابعون حفل تسليم السلط ب بقصر ماتينيون Matignon  بالدائرة السابعة بباريس بين  غابرييل اطال  Attal  الوزير الأول المستقيل وميشيل برانيي Michel Barnier   رئيس الوزراء المعين يومه من طرف رئيس الجمهورية الفرنسية أيمانويل ماكرون. Emmanuel Macron   بعد مرور  شهرين  بالكمال والتمام على الانتخابات التشريعية الأخيرة (7 يوليوز 2024)  على اثر  حل الجمعية الوطنية  ( مجلس النواب  ).ولعل هذا التأخير في التعيين -على غير عادة الممارسة الديمقراطية في الجمهورية الخامسة ،يعود في قليل منه للألعاب الأولمبية التي احتضنتها باريس في هذا التاريخ لكن في كثير منه يعود  إلى ما أفرزته التشريعيات الأخيرة من فسيفساء حزبي ،خاصة بعدما لم يتمكن تحالف اليسار من الفوز برئاسة الجمعية الوطنية ،مما فسح المجال لامانويل ماكرون  ان يبقى قائداً ميدانيا لتدبير اللعبة السياسية الفرنسية.  في الخفاء والعلن . 

وبدوري تابعت عن بعد  هذا الحفل الذي يقتضيه البرتوكول الرسمي -مع ما يستلزم ذلك من (اتاي ) مغربي وقليل من القرشيلات بدون سكر -  

وعلى عادة الفرنسيين  عشاق النقاش السياسي الواسع فقد كان الحفل هذه المرة ايضا  لحظة سياسية  بامتياز .

فان يقف رجل  مسن « ميشيل بارني " Michel Barnier عمره  ثلاثة وسبعون سنة .خبر الحياة السياسية الفرنسية،  ممارسا   داخل الأحزاب  ومسؤولا  أيام الكبيرين  فرانسوا ميتران  وجاك شيراك وبعدهما مع  نيكولا ساركوزي وفرانسوا  وهولندا والان  مع إيمانويل  ماكرون .ومن مواقع مختلفة تنفيدية (وزير عدة مرات )وتشريعية  (وطنيا واوروبيا)  ومنتخبا محليا وجهويا بمنطقة سافوا département de Savoie بالجنوب الشرقي لفرنسا .

 اكبر وزير اول سنا  في الجمهورية الخامسة  ،امام شاب لا يتجاوز عمره اربع وثلاثين ربيعا كل ما في رصيده السياسي هو مشاكسات في البرلمان مع وثمانية اشهر بالوزارة الاولى كأصغر وزير بماتينيون  هذا القصر الذي يعود تشييده للقرن الثامن عشر والذي اشترته الدولة الفرنسية سنة 1922 ومنذ 1935 وهو يحتضن مقر رئاسة الوزراء بالجمهورية الفرنسية .

فهذه الصورة وحدها لها من الدلالة ما يكفي . حيث يتناغم  التقدير للطاقات الشابة في بلد يشيخ يوما بعد يوم .مع الاعتزاز بالخبرة والحنكة والتجربة والرزانة التي  كم هي في حاجة اليها باريس هذه الأيام  وفي هذه اللحظة بالذات .

فعندما ازداد  غابرييل اطال سنة 1989 كان ميشيل  برانيي قد خبر الادارة والسياسة وتقلد مهاما سامية. ومع ذلك هاهو يستمع  بتمعن  للشاب  (العيال كبرت ) وهو يلقي كلمته التي وان تظاهر بعفوية فانها يقينا  كلمة قد اخدت منه ومن مساعديه ليالي بيضاء لاعدادها.  وصراحة فقد توفق في شكلها وطريقة   القائها . لكنه جانب  الصواب عندما شرع في إعطاء الدروس لسياسي محنك  ومسؤول كبير سنا ومقاما طموحه رئاسة الدولة ليس إلا . 

ولعل أقوى لحظة في  خطاب غابرييل في تقديري . هي عندما التفت إلى الوزير الاول الجديد وقال له ما ما معناه  (ان الأولوية  بالنسبة كانت هي المدرسة " مدرسة الجمهورية "ام المعارك . واذا كان لي طلب واحد السيد الوزير الاول ، فهو ان تستمروا من جعل المدرسة أولوية عملكم واهتمامكم . لان  المدرسة هي   تامين الحياة  assurance vie بالنسبة لفرنسا)

  وبعدها مر مرور الكرام على الملفاة الأخرى الفلاحة والسياحة ومشاريع القوانين وقال له انها جاهزة وفوق مكتبكم .

فهاهي  فرنسا الحاضرة بقوة في واقع ومخيلة نخبتنا الاقتصادية والحكومية والسياسية تلح على قطاع هو بالذات ما يؤرق المغاربة والناس أجمعين إلا الساسة والسياسيين . المدرسة المغربية التي لازالت تبحث نمودجها ونحن الآن في الدخول  المدرسي  الثامن والستين بعد الاستقلال . فهل نحن على أبواب الخروج من القمقم ؟ 

وبقدر ما كان غابرييل اطال خفيفا وهو يستعرض  -بدون تواضع  -عضلات  240 يوم فقط  من التدبير ويوجّه السهام إلى صديقه  ورئيسه ماكرون  عن طريق الوزير الأول المعين ؛بقدر ماكان مشيل بارنيي في رده  هادئاوثقيلا ومشفقا ،على زميله وكأنه يشهد  الفرنسيين على زمن الثفاهة التي تعيشها فرنسا .لكنه سيرحب بما طلبه منه سلفه من جعل  التعليم ومدرسة  الجمهورية من أولوياته، وسيقصفه بقوة عندما سيقول له ان الصفحة الجديدة في تاريخ فرنسا ستعرف تغييرات هامة وايضاً قطائع مطلقة .لكن أقوى لحظة في رد الوزير الأول المعين وهو ينظر بشفقة ومن فوق إلى  الساكن القديم  لماتنيون وهو يغادر مكاتبه  c ‘es formidable d’être le benjamin ,mais c’est un titre qui se perd rapidement عضيم ان تكون الأصغر لكنه (لقب سريع الزوال ).

كم كانت ممتعة هذه المناسبة وأنا أتابع هذا الحوار السياسي بين رجلين من جيلين تفصل بينهما أربعة عقود لكن هذة المرة كان جيل التسعينات هو من يقدم المشعل لجيل الخمسينات .هذه هي الديمقراطية وهذا هو العمل السياسي . فهاهي مجرد لحظة بروتوكولية تحولت إلى زمن سياسي اشتغل  عليها المراقبون والمحللون ورجال الإعلام  وهي الآن تتحول إلى حدث سياسي سيحتفظ به التاريخ .

لمست (براد اتاي )فسخونته لا زالت مرتفعة ،وشريط الاسئلة الشفوية بالبرلمان المغربي يمر امامي وانا احاول ان أتذكر ما هو آخر مرة تابعت فيه حوارا  سياسيا  ببلادنا فلم تسعفني الذاكرة بتذكّره. ولم يقطع تفكيري إلا طرق باب الشقة  . إنها السيدة المكلفة بالإحصاء . فقد حان الوقت لأجيب  وزوجتي على الاسئلة ،وكان حظنا وافرا في الاستمارة القصيرة .