فن وإعلام

فيلم "كذب أبيض".. قصيدة سينمائية تستحضر روح انتفاضة 1981

فؤاد زويرق ( ناقد سينمائي )
ما زال الفيلم الوثائقي المغربي “كذب أبيض” للمخرجة أسماء المدير يجول العالم، ويحصد المزيد من الجوائز العالمية المهمة. وقد سبق أن اختير لتمثيل المغرب في جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لسنة 2024؛ وهو اختيار يستحقه فعلا، كونه الفيلم المغربي الوحيد هذه السنة الذي حقق كل هذه النجاحات خارج الحدود. 

بُني الفيلم على أساس صلب من حيث التيمة والمعالجة واللغة السينمائية المستعملة.. وكلها عناصر ساعدت على توصيل رؤية المخرجة إلى ذهن المتلقي بكل أريحية وسلاسة ووضوح. 

شخصيا، شاهدت الفيلم ضمن فعاليات مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)؛ وهو من أكبر وأهم المهرجانات العالمية. وقد استمتعت كما استمتع الجمهور الذي حضر العرض بما رشح منه من دهشة إبداعية استثنائية جعلتنا ننجذب إليه من بدايته إلى نهايته. 

بالنسبة إلينا نحن المغاربة تتحول هذه الدهشة مع توالي السرد إلى استفزاز تاريخي للذاكرة، باستحضار حدث مأساوي عاشه المغرب في بداية الثمانينيات وبالضبط سنة 1981، حدث يدخل ضمن سياق ما نسميه “سنوات الرصاص”، وهذا الحدث هو الانتفاضة الشعبية التي عرفتها مدينة الدار البيضاء بسبب زيادة في أسعار المواد الغذائية الأساسية، وما خلفه القمع الذي تعرضت له… 

بالنسبة للأجانب سيستمتعون حقيقة بالفيلم، سيستمتعون بالأداء العفوي لشخصياته وقدرتها على استدعاء تراجيديا الحدث بكل المشاعر التي رافقتها آنذاك، شخصيات من الماضي، من داخل الحدث، من عمق بيت المخرجة نفسها، عاشت قربهم ومعهم وترعرعت بينهم، وعرفت حكاياتهم وكيف تستفز ذاكرتهم ليعيدوا سردها علينا بكل تفاصيلها الدرامية، شخصيات متنوعة ومختلفة تتشارك الذاكرة نفسها والمأساة ذاتها؛ لكن لكل واحدة منها رؤية وقراءة مختلفة عن أخرى، لتبقى شخصية الجدة، جدة المخرجة كبيرة العائلة، وبطلة الحكاية بامتياز، هي الذاكرة المعتمة المليئة بالمشاعر المكبوتة والمتناقضة في آن، وهي أيضا العصا المتحكمة في سيرورة السرد، كشخصية كوميدية درامية قادرة على تحقيق التوازن بين باقي الشخصيات داخل الفيلم بالنسبة للمشاهد الأجنبي، وأم وجدة قوية ديكتاتورية تسيطر على البيت من الداخل وتتحكم في كل ساكنته بعاطفتها وفطرتها، بالنسبة للمشاهد المغربي الذي يتشارك نفس الثقافة والتقاليد مع المخرجة، وحتما له أمّ أو جدة مثلها. 

تعاملت أسماء المدير مع فيلمها هذا بذكاء؛ فعوض اللجوء إلى الوثائق والمواد البصرية التاريخية التي وثقت لهذا الحدث، وقتلت بحثا وتحليلا وعرضا، التجأت إلى الدمى المنحوتة كرمز لكل الشخصيات المشاركة في العمل، وأيضا اختارت بناء مجسم كارتوني للدرب ولبيت العائلة كمسرح لجزء من المأساة، حيث عشنا الحدث داخل هذا المجسم وتعاطفنا مع أبطاله من الدمى. 

فنيا وتقنيا، هناك احترافية كبيرة في التحكم في الإضاءة والظلال والألوان بما يتناسب والسياق الدرامي للقطة، والتحول بين الدمى والشخصيات الحقيقية، وعكس عمق مشاعرها النفسية المكبوتة داخلها بالسؤال مرة وبالكاميرا مرات. وقد لعبت اللقطات القريبة جدا دورا كبيرا في رسم ملامح هذه المشاعر. 

أما بالنسبة للموسيقى فاستخدام أغاني “ناس الغيوان” كان له وقع خاص، باعتباره خيارا موفقا يتناسب والفترة الزمنية التي تناولها الفيلم، وهذا شكَّل بدون شك متعة جمالية متناسقة ومناسبة لنوعية الحدث، بما يحمله من جرعات متمردة وثورية، تصب في عمق معاني ألحان وكلمات أغاني هذه المجموعة التي عرفت بمسارها النضالي ضد الظلم والسلطة، وتوجهها العام بالتغني بالحرية والسلام والإنسانية. 

لا شك في أن الفيلم حقق نوعا من الإبداع الجميل والمبتكر في السينما الوثائقية المغربية، بأسلوبه الفني المتفرد كما قلتُ، وباستفزازه المتقن للمشاعر وللذاكرة الجماعية، إذ لم يهتم بشكل مركز على التوثيق بقدر ما اهتم بالبوح، وتفريغ المسكوت عنه داخليا لدى الأشخاص الذين عاشوا المأساة وعانوا بسببها، ويمكن اعتباره جزءا من شخصية كل مغربي عاش تلك الحقبة المشحونة بالنضال الشعبي وبالتجاذبات والاصطدامات السياسية. 

يمكنني اعتبار فيلم “كذب أبيض” امتدادا للفيلم القصير ”جمعة مباركة” للمخرجة نفسها والذي أنتج سنة 2014، فيلم استعملت فيه صوتها كراوية أيضا، وذاكرتها كشاهدة على أحداث سياسية عديدة في إطارها العام الذي يهم المجتمع المغربي، في تداخل متناسق ومنسجم مع المجتمع المصغر الذي يهم عائلتها القريبة. وقد عبرت عن هذه العوالم المتشابكة بدمى كشخصيات؛ لكن بشكل أبسط من ”كذب أبيض”، حيث وظفت الدمى الروسية الماتريوشكا أو بابوشكا، فكانت في الأخير وصفة إبداعية أهلتها لخوض تجربة أكثر إبداعا وتعقيدا واحترافية، فكان فيلم “كذب أبيض”. 

وما دمتُ قد أشرت إلى فيلم ”جمعة مباركة” فلا بد من قراءة خاطفة له حتى نقف بشكل سريع على محتواه الذي شكّل نواة فيلمها الأخير هذا، فـ”جمعة مباركة” هو عمل يحتفي بذكرى العم مرزوق، عم المخرجة، ذاك الثوري الذي يمثل شباب الستينيات والسبعينيات، العائد من الاتحاد السوفياتي برؤى مختلفة وبفكر يساري واضح، والذي كان دائما في نقاش وجدال وصدام مع شقيقه حميد الملتزم دينيا والمعتنق لأفكار وإيديولوجيا أخرى مغايرة ومعاكسة. وهاتان الشخصيتان الرئيسيتان لم تقف عندهما المخرجة طيلة الفيلم؛ بل تم توظيفهما حتى تظهر مدى اختلاف الميولات السياسية في عائلة تلعب فيها الأم /الجدة (كما في باقي الأسر المغربية) دور المايسترو الذي يتوسط الاوركسترا ويوزع الأدوار بين أعضائها بديمقراطية وعدل. 

الجدة هنا هي نفسها الجدة في فيلم “كذب أبيض”، فقط في هذا الأخير استولت على مساحة أوسع وعلى دور أكثر ثقلا ومردودية على سيرورة السرد. وفي كلا العملين كانت الشخصية القوية الكتومة المتناقضة الخائفة على أسرتها من بطش السلطة مع كل مناكفة أسرية وحوار سياسي بترديدها العبارة المجازية المعروفة لدى المغاربة ككل (الحيوط عندهوم لوذنين). 

تبقى المخرجة أسماء المدير مخرجة مجتهدة وطموحة وقادرة على صنع الدهشة في أفلامها الوثائقية بأبسط الأشياء وبلغة سينمائية أنيقة وسلسة ترصد من خلالها عوالم المهمش بأبعادها الاجتماعية والسياسية والنفسية… لكن بمعالجة متفردة تروم استحضار قصص إنسانية مغربية معبرة بدلالات مباشرة، تحاكي قضايا مجتمعية في قالب درامي غير معقد، أفلام ببناء منطقي غير مشفر، متنه الحكائي بسيط للغاية لا يحمل بين طياته رسائل ملتبسة وغامضة، فقط بوح من عمق الذاكرة المليئة والمزدحمة بالكثير من الأحداث والحكايات المنغمسة في روح المشاعر والأحاسيس الإنسانية.