قضايا

قصة نجاح..عندما تتحول النقابة إلى “باطرونا"

عمر لبشريت ( صحفي)

بداية الثمانينيات، كانت الأزمة الاقتصادية شاملة وقاسية بإقليم الكيبيك وكندا، انكماش اقتصادي، تراجع نسبة النمو، وارتفاع نسبة البطالة بشكل كبير، إغلاق وإفلاس المعامل، تسريح العمال، وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مخيف مابين 18 و20٪؜. كانت سنوات سوداء..

وسط هذه الأزمة القوية، خرج قياديو أكبر مركزية نقابية بالكيبيك FTQ) فدرالية عاملات وعمال الكيبيك) مقترحين حلا أثار سخرية وانتقاد الجميع آنذاك: خلق "صندوق للتضامن" يساهم فيه العمال والحكومة وأرباب العمل، تكون مهتمه دعم التشغيل والحفاظ على فرص العمل، ودعم المقاولات.

الحكومة لم تكن متحمسة، والنقابات الأخرى اتهمت أصحاب الفكرة بإثقال كاهل العمال باقتطاعات جديدة، وحلفاء النقابة من الشيوعيين والماركسيين سخروا من الفكرة بحجة تحول النقابة إلى "باطرون".

أمام تحفظ وعدم حماس الجميع، أخذت النقابة على عاتقها إطلاق هذه المغامرة وحيدة.  وكان يوم 23 يونيو 1983، انعراجا ايدولوجيا كبيرا في تاريخ النقابة من خلال إعلان ميلاد "صندوق التضامن” Fonds de solidarité FTQ ». كان المولود الجديد سابقة في تاريخ النقابات وتاريخ التضامن العمالي.

كانت النماذج القائمة، آنذاك في العالم، تقوم على استثمار العمال في مصانعهم مع مخاطر فقدان العمل والأموال في حالة الإفلاس.

الجديد الذي جاءت به النقابة يعتمد على استثمار العمال لمدخراتهم ولتقاعدهم بالصندوق مقابل خصومات ضريبية مهمة وعائدات استثمارية واعدة وضمان للمخاطر . بالمقابل يقوم الصندوق باستثمار ألأموال في مقاولات واعدة من أجل الحفاظ على مناصب الشغل وخلق فرص شغل جديدة..

كانت فكرة النقابة تقوم على مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة من خلال دعم المقاولات المهددة والحفاظ على مناصب الشغل وتفادي تسريح العمال.

لم تتحمس الأبناك ولا رجال الأعمال، فانطلقت الاكتتابات وسط العمال من خلال اقتطاع اسبوعي يصل إلى عشرة دولارات..

انطلقت المغامرة من العمال وتتظيمهم النقابي، وكانت أولى المساهمات من أموال العمال البئيسة. بعد أربعين عاما أصبح "صندوق التضامن" من اللاعبين الكبار في مجال الاستثمارات ودعم المقاولات وخلق فرص الشغل.

انطلق بعشرة دولارات للعامل الواحد، وأصبح اليوم يتوفر على رأسمال يصل إلى 18 مليار دولار و759 ألف مستثمر وله استثمارات في 3600 مقاولة تشغل 300 ألف عامل..

لكن، قصة النجاح يقف وراءها زعماء نقابيون، كانت لهم، في عز الأزمة، نظرة مستقبلية وطموح وشجاعة سياسية وأيديولوجية لتغيير ودعم عمال الكيبيك وتقوية المقاولات الكيبيكية.

بعد السنوات الأولى لخلق الصندوق، وبصبر وتحدي خيالي ومن خلال عمل يومي وفكري تطوعي، تجند له اقتصاديو وخبراء وأطر النقابة، بدأت النتائج تظهر، والمولود يترعرع ويكبر ويذهل الجميع.

أمام النجاحات الأولية، التحقت الحكومة وقدمت دعما سياسيا، بضغط من البرلمانيين وحلفاء النقابة، من خلال إعفاء أموال العمال المدخرة بالصندوق من ضريبة الأرباح. واستطاع العمال بالتالي ضمان ربح حوالي 30% من الاقتطاعات الضريبية على أموالهم زائد ضمان عائدات استثمارية تصل إلى 2% خلال ستة أشهر و 4,7% خلال عام، و5,1% خلال خمس سنوات، ثم 6,7% خلال عشر سنوات. أصبح الصندوق سندا كبيرا للعمال من أجل الادخار للتقاعد وبأرباح واعدة جدا.

النقابة العمالية كانت واضحة وهي تتحول إلى شريك اقتصادي: لا محيد عن الخيار الديموقراطي الاجتماعي. لذلك، كانت تدخلات واستثمارات "صندوق التضامن" مختارة بعناية: دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة والحفاظ على مناصب الشغل وخلق فرص شغل جديدة.

لذلك، ركزت على القطاعات التي تعاني صعوبات مالية، وعلى الجهات البعيدة والمدن الصغرى والهشة، والمقاولات المهددة بالانهيار، والمقاولات الناشئة والشباب.

كانت الأرباح والعائدات خيالية وكبر الصندوق ليتحول إلى قاطرة للتنمية ودعم مجهودات الدولة وشريكا في النهضة الاقتصادية والاجتماعية وتشييد البنية التحتية والطرقات والنقل.

اليوم، أصبح الصندوق مطلوبا من طرف الدولة للتدخل في الاستثمارات الهيكلية، وشريكا لصندوق الإيداع والتوفير بالكيبيك وللأبناك في كافة المشاريع التنموية الكبرى.

أصبح اليوم قاطرة ضرورية في التنمية، حيث استطاع خلق 77 صندوق استثماري متخصص، و87 صندوق محلي للتضامن، و16 صندوق حهوي للتضامن، كما قام بإنشاء "الصندوق العقاري للتضامن"، وصندوق الطاقة البديلة.

وتتنوع استثمارات الصندوق لتطال جميع القطاعات الاقتصادية: من صناعة الطيران، والفلاحة، والتكنولوجيا الحديثة، والصحة، والمعادن والطاقة، والصناعة، والعقار، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات، والاتصالات، والغابات، والبناء، والاقتصاد الاجتماعي، والتجارة… إلخ

وأن تترأس "صندوق التضامن" يعني إما أن تصبح،  في المستقبل، وزيرا أولا، أو وزيرا، أو موظفا حكوميا كبيرا، أو رئيسا تنفيذيا لكبريات الشركات.

المدير العام للصندوق ينتخب خلال مؤتمر النقابة، لكن هناك فصل واضح للسلط. الصندوق ورئاسته ليست ريعا نقابيا ولا منصباً للتوظيف او الاغتناء، هو صندوق استثمار يسري عليه مثلما يسري على الأبناك والشركات.

هكذا، اسطتاع زعماء نقابيون، وهم يواجهون أزمة اقتصادية طاحنة، من إبداع حل لإنقاذ الاقتصاد ودعم فرص الشغل والمساهمة في نهضة المجتمع. زعماء، كانت لهم نظرة ثاقبة وشجاعة سياسية وأيديولوجية، وفوق ذلك ثراء فكري وحس وطني، وشعور كبير بالمسؤولية.

لم يغتني أي أحد فيهم، ولا وظف أبناءه وخلق لهم مكاتب للدراسات. والأكثر من ذلك، لم يشحذ الدولة ولا ساومها.

اليوم نقابة FTQ وهي تشرف على صندوق ضخم ورافعة اقتصادية للعمال وللبلد، مازلت تواصل نضالها وتدافع عن العمال بشراسة، آخرها الإضراب عن العمل اللامحدود في الصحة والتعليم. هي اليوم، لاعب أساسي في التنمية الاقتصادية ورقم كبير في النضال العمالي. لا الصندوق أفسد النقابة، ولا النقابة أفسدت الصندوق، ولا الدولة أفسدت الجميع..