قضايا

هذه دوافع "صمت المغاربة" أمام الخرافات وشرارة عنف المشعوذين

الدكتور جواد مبروكي

ألاحظ على الدوام المغربي من مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية، بمن في ذلك المهندس والدكتور والأستاذ الجامعي، يقص تجارب خرافية عن السحر والجن والعفاريت والشياطين والزوايا والأضرحة والسادات وبركة "الشُّرْفا" و"المجاذيب" والرقية الشرعية" والصرع والمنازل "المْسْكونة بْجنونْ" و"العين" و"تْخْطّا شِي حاجة" و"التّْوْكالْ" و"الفْقْيا" و"الكْتابة" و"الحْرْزْ" و"الشّْوّافة" و"الفالْ".

ويؤكد من خلالها صحتها وحقيقتها وعجز العلم أمامها ويزيدها ظلمات حين يستعين بالجملة "جّوكيرْ": "راها مذكورة في القرآن".

بطبيعة الحال، معه كامل الحق أن يقول إن العِلم يعجز أمام هذه الخرافات؛ لأن العلم يستند في نتائجه إلى التجارب العلمية.. وبطبيعة الحال، كل هذه الخرافات ليست بعِلم. كما أنها ليست بدين.

لكن عندما تطرح عليه رأيك بفكر عقلاني ومنطقي ومنهاج نقدي حداثي، ترى محاورك المغربي يتهمك بالإلحاد وبرغبتك في تدمير الإسلام.. وبطبيعة الحال، هذا الرد العنيف ينبثق من مخزون المعارف بدون منطق علمي وحداثي.

كيف لمجتمعنا أن يتقدم إذا كان حتى المثقفون يؤمنون بهذه الخرافات ويصغون برامج التعليم والإصلاح والاقتصاد والصحة بأذهان تغزوها المعتقدات الخرافية؟ فكيف لهم أن يحاربوا الجهل والجهلاء والمشعوذين وخرافات "بركة الزوايا" و"السّاداتْ" وهم يؤمنون بخرافاتهم؟

في مهنتي، أرى يوميا الدمار الإنساني والمجازر النفسانية الناتجة عن كلام وأعمال "الْفْقي" و"الراقي" والمعالج بالأعشاب والعسل والنحل والحجامة و"الكْوْيانْ".. وأتأسف بمرارة على وطني وانتشار هذه الشعوذات والخرافات، وعلى الخصوص حين ينغمس فيها مثقفون وخريجون من المدارس العليا والجامعات.

هناك أربعة أسباب رئيسية لانتشار الخرافات والنفور من الفكر الحداثي:

1- دماغ المغربي لا يزال حبيساً في مرحلة "الفكر الخيالي"

نعرف أن الطفل في نموه يمر بـ مرحلة "الفكر الخيالي"؛ وهي مرحلة يسلم فيها الطفل بكل شيء يُقال له مثل "الغول" و"عيشة قنديشة". وتنتهي هذه المرحلة تدريجيا مع دخوله إلى مرحلة التمدرس، حيث إن المدرسة ترافقه في التمييز بين ما هو خيالي وبين ما هو حقيقي وهذا ما يساعده على نضوج فكره. وبما أن هذه الأساليب التعليمية تغيب عن مدارسنا، يستمر الطفل حبيساً في مرحلة الفكر الخيالي لترافقه بألوانها المختلفة طيلة حياته مهما كان مستواه الدراسي والثقافي.

2- غياب الفكر النقدي

التربية المغربية تحارب الفكر النقدي باعتباره "قْلّْتْ الأدب والدّْسارَة والابتعاد من طريق الله"، وتجعل الطفل كإناء يستقبل كل ما نفرغه بداخله بدون أي حق له في النقد والتساؤل. ولهذا، نراه يستقبل كل الخرافات، وخاصة التي لها لون ديني؛ لأن الدّين لا يُنتقد، كما علمته المدرسة والمجتمع.

3- التربية الدينية الخاطئة

مع الأسف، أرى أن الذين يعتبرون أنفسهم رجال الدّين يُركزون في دروسهم الدينية على القصص التي تغلب عليها الخرافات، وجل كلامهم عن ما يحدث في جهنم وعذاب القبر. وأثناء هذه الدروس، يستمر المغربي في تقوية فكره الخيالي، حيث يصنع في دماغه صوراً خيالية مطابقة لمحتوى القصص الخرافية. ولهذا، يؤمن المغربي بكل سهولة بخرافات المشعوذين؛ لأن خياله قادر على صناعة سيناريوهات لخرافاتهم الهوليودية. وبهذا الشكل لا تُركز التربية الدينية على حرية الفرد في عقيدته، وعلى قيم المواطنة والحس بالانتماء إلى المجتمع، وعلى الفكر النقدي، وعلى البحث الفردي عن الحقيقة، وعلى المسؤولية والمساهمة في ترقية المجتمع الإنساني وتعزيز التعايش المشترك.

4- المارْكيتينك أو التسويق الديني

يستعمل المشعوذون أساليب تجارية متطورة لتسويق منتجاتهم السامة، عبر أدوات سلوكهم ولباسهم وكلامهم التي يستلهم من قصص دينية ومن نماذج نمطية رُسخت عند المغربي منذ صغره مثل: "رأيت في المنام ولِيّاٍ صالحا كله نور وكلامه كله قرآني ولباسه أبيض وله لحية طويلة....". ونجد انطلاقاً من هذه الصورة المنامية أن الراقي أو حارس ضريح أو المشرف على إحدى الزوايا أو حتى بائع الأعشاب العلاجية و"الكاسْكْروطاتْ" أو "فْقْيهْ"، نلاحظ أنه يرتدي الأبيض وله لحية طويلة ويتحدث بكلام ديني، يُذكرنا مباشرة بالقصص التي رُسخت في أذهاننا عن الأولياء الصالحين، ونجد أنفسنا نثق فيهم ونعتبرهم لا شعورياً أنهم كذلك أولياء صالحين ونصدق خرافاتهم التي ترتدي قناعا دينيا خادعاً.

إن التعليم والتربية بدون وعي حداثي وفكر نقدي ما هو إلا ضياع للوقت وخراب وتدمير للمجتمع، كأنها برامج علاجية موازية تنشر الأمراض بدل معالجتها.

*خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي