فن وإعلام

فيلم على الحافة لليلى كيلاني (صورة مقربة) : بديعة … محاولات عاثرة لسرقة لحظات جميلة

عبد الله صرداوي

"على الحافة" فيلم روائي طويل، مدته 105 دقيقة، سيناريو وإخراج ليلى كيلاني، تصوير إريك دفين ومونتاج تينا باز، صوت كل من فيليب لوكور ولوران مالان، تشخيص صوفيا عصامي، منى باحماد، نزهة عاقل، سارة بيتيوي…

يحكي الفيلم عن بديعة شابة تعمل في شركة لتقشير الروبيان، تعيش وحدها في غرفة حقيرة وبئيسة حال وضعها المعيشي بشكل عام، تتكلم بشكل معيب ومنفر وخال من أي لباقة، صداقاتها عاثرة، أفكارها مضطربة، تخطط لسرقات صغيرة بخسائر معلنة، تقدمها المخرجة وحيدة بلا عائلة تطمأن عليها أو ترعاها، بلا رجل يسأل عنها أو يواسيها، يحبها أو يهجرها.

يتحدى فيلم ليلى الكيلاني منذ بدايته كل نمط وكل توقع منتشر في التعبير الميلودرامي المغربي، فما تقدمه هو نوع من الدراما للفضح، ونفض الغبار عن فئة اجتماعية تتناحر فيما بينها، فئة من الفتيات/العاملات (بديعة. إيمان. نوال. أسماء) لسن مقبولات ولا مكان لهن داخل المجتمع، تقدمهن كفتيات عاهرات سيئات الطبع لكن في جانب ما هن طيبات.

تفتتح المخرجة الفيلم على مشهدين مهمين، تهيئ من خلالهما المشاهد للدخول في أجواء الفيلم، إذ بإمكانه من خلالهما أن يصل إلى نقطة قد تمكنه من فهم بعض ملامح الفيلم.

في المشهد الأول تنقلنا الكاميرا إلى لقطة معززة بكلام خارجي لبديعة يتضمن ما يشبه الاعتراف تدلي به مسبقا، اعتراف يلخص حياتها، ويمهد كبنية دلالية لما سنراه بعدها من أحداث، بالرغم من الطريقة غير المريحة لكلام بطلة الفيلم، والتي تبقى مصدر تشويش حاضر وثابت في يجعل المشاهد يفوت مضمون الكلام الخارجي المرافق للمشهد، فبديعة تتكلم بشكل سريع ومتداخل وغير مفهوم، سنكتشف لاحقا مع مرور الأحداث أنه اختيار قررت المخرجة الحفاظ عليه كما هو، أي تركت الشخصية بديعة تتحدث على طبيعتها…

يليه مشهد آخر حيث تعتقل بديعة تحت أنظار جيرانها وصديقاتها، المشهد معزز أيضا بصوت خارجي لبديعة، تقدم فيه ملخصا لتصورها ونظرتها للحياة المثقلة بالوجع والحرمان، نستشعر ذلك من خلال جمل وكلمات أساسية وردت في هذا المشهد قد تشكل مفتاح فهم وتأمل لما يأتي من الفيلم (…على بونت/على الحافة/ على زليقة…)

يرتكز الفيلم على أداء الشخصية الرئيسية، فمنها ومن خلالها تتفرع الأحداث في شكل تبدو معه كبؤرة دلالية، ومركزا تنطلق منه كل خيوط الحكاية التي تتعالق فيما بينها، ثم تعود في لحظة معينة إلى المركز (بديعة)، وداخل دائرة مغلقة تتحرك فيها كل القيم الهشة والطاقات السلبية، تظهر الشخصية بعجزها وهشاشتها وعدم قدرتها على فهم ما يدور حولها، ككائن مبالغ فيه يتحكم فيه الوهم، الذي يخلق لبديعة عالما تبدو فيه متحكمة في خيوط اللعبة وفي مصائر صديقاتها، عالما هشا على حافة القمع والقهر والضياع، ببداية معروفة، ونهاية حتمية معلنة، مطوقة بصديقات خارج دائرة الاهتمام، لا صوت لهن ولا اتصال لهن مع مجتمعهن. ووراء كل هذا مخرجة تجتهد لتجعل فيلمها مثيرا للدهشة ومغايرا، ويظهر أن ليلى الكيلاني لم تدخر جهدا لتحقيق هذا المسعى، خصوصا حين نتحدث عن طبيعة شخصياتها وطريقة اعتماد الكاميرا، ومواكبة تنقلات الشخصيات الكثيرة بين ديكورات وفضاءات مختلفة، وخصوصا تلك التفاصيل المختارة بعناية والمتعلقة بمشاهد (مشهد الاستحمام. تحضير الخلطة والاستحمام في إناء صغير. مشاهد تغيير الملابس…).

لا شك أن ليلى كيلاني نجحت في تكثيف الحكاية، إذ لم تعطي للمشاهد فرصة للتفكير أو التأويل، ولم تترك له فرصة لملء فراغات معينة (باستثاء وحيد يأتي لاحقا)، إذ جاء الفيلم مثخما بالأحداث ومترابطا بشكل فريد، ومفتوحا على عالم الشخصيات المتشظي والمهمش والبئيس (السكن.اللباس.العمل…)، فحتى خلال ثرثراتهن الطويلة، يظهر لنا تدني المستوى المعرفي والفكري وحجم المعاناة والقهر والأسى، لكن ما يختلجهن داخليا أعمق وأقسى، صحيح أن المخرجة لم تحدد لنا حقيقة هذا الشعور، لكن مع توالي أحداث الفيلم يبدو أن الشعور بالعجز والضياع والذنب هو المتحكم في تصرفاتهن، هكذا يصبح ايقاع الفيلم في لحظات معينة (بعد السرقات المتتالية) أكثر تسارعا، وتظهر معه أحاسيسهن تتصاعد في دواخلهن إلى أن تنفجر في لحظة غير عادية (البحث عن مخرج)، بحيث نكاد نسمع لهات الكاميرا وهي تركض خلف الشخصيات في تحركاتهن الكثيرة والسريعة، وهو تصعيد متقن من قبل المخرجة لكل الاساليب الممكنة والمتاحة ليظهر الفيلم بالشكل الذي قدم به، تتويج فني مشكل بعناية خاصة.

ويبدو أن سر نجاح الفيلم ينطلق من طريقة الإخراج التي توسلتها المخرجة، وينتهي بالصدق المتعالي لفريق التمثيل، هذا التضافر منح الفيلم توازنا وإيقاعا يحفظ للفيلم مستواه الجيد منذ البداية، إن استعانة المخرجة بوجوه غير محترفة واختياراتها المتعلقة بالمكان والفضاء والشخوص، جعل المخرجة قادرة على رؤية المشهد العام للفيلم بعين طازجة، إذ عرفت كيف تستقطر جوهر البؤس والقهر الإنساني لفئة مطحونة تعيش على هامش المجتمع بلا كرامة أو اهتمام.

طوال الفيلم ينتابك ذلك الاحساس بأن الكاميرا لا تكاد تتوقف عن الركض، داخل جو مشحون بالأحداث المتسارعة، والتي حجبت عن الفيلم أي ميول نحو الرتابة، إذ جاء الفيلم مترابطا من حيث الإيقاع والمستوى الدرامي والفني، وحتى في استعانتها بمشاهد طويلة نتفاجأ باختيار يمتح من السينما المؤسسة والمعتمدة (مثالا: مشهد المعمل المؤثت ببياض آخاذ مختلط بلون الروبيان وشكل الطاولات المرتب بعناية)

يبدو جليا أن المخرجة المثقلة بمرجعيتها السينمائية القريبة من سينما الحقيقة، جعل فيلمها يبدو حقيقيا أكثر منه واقعيا، وإن كان في أصله متخيلا، فمن خلال الاعتناء بالتفاصيل التي تحضر كثقوب سوداء يتماهى معها المشاهد، والذي يكون شاهدا على حالة اجتماعية لا يستطيع نكرانها أو الوقوف بعيدا عنها، فبديعة تحضر كحالة اجتماعية تختزل معيش شريحة عريضة من المجتمع ينخر عضدهن الاستغلال والقهر والبؤس، تقدمها المخرجة كاملة بلا نقصان، كيف تأكل (الحليب مع الخبز) وكيف تلبس (لباس فوق لباس) وكيف تتكلم (ابتدال وتهجم)، تقدمها بلا انحياز أو تعاطف، وهي بهذا تتبنى نظرة صريحة ومعلنة نعاينها من حجم الكراهية وعدم الرضى تجاه المجتمع، وأحيانا تجاه الشخصيات وخصوصا الشخصية الرئيسية.

لقد أوجدت المخرجة تلك المساحة الفنية المناسبة، التي تظهر لنا عذابات بديعة اليومية، والطريقة القاسية التي يتشكل منها عالمها، ولا بد من الإشارة إلى ذلك التشاكل الواقع بين الشخصية كدور وبين من يؤديها، هي حالة تبدو واحدة لا يظهر أن هناك مسافة بين بديعة وصوفيا عصامي، وربما هو إعلان ضمني عن تصور المخرجة للحياة والفن باعتبارهما شيئا واحدا من الصعب التفريق بينهما، فالفيلم مهموم بما هو حقيقي ومعاش، الفضاء والزمن والشخوص، بل إن حركات الشخصيات تبدو كما لو أنها تحدث خارج الفيلم، وكأنها تتسلل إلى شوارع طنجة وفضاءاتها المختلفة في غفلة من المخرجة.

في خضم كل هذا، لا يفوت المخرجة تمجيد هذا الوضع من خلال مشاهد اغتسال بديعة وعنايتها بنظافتها، ففي وسط متسخ وعفن، نجد ذلك الحرص الشديد على النظافة الخارجية، مشاهد مصورة بكادرات مختلفة وزوايا قريبة، تثير الأسى والتعاطف، إذ يبدو أن ما يهم بديعة هي أن تتحاشى الاختلاط بالناس ورائحة السمك تفوح منها. لحظات الاغتسال هي لحظات عذاب أكثر منها لحظات نظافة أو تطهير، وهي مشاهد تعكس تلك الهشاشة التي تجعلنا نتعاطف معها ما دامت المسافة بينها وبين عالمها المتسخ والعفن تضيق، وبينها وبين التطهير والعيش في عالم أقل اتساخا (حتى أخلاقيا) تتسع، هذه السعة تظهر أيضا وبشكل جلي في مشاهد مختلفة، الشاهد هنا، موقفها أمام مسير المصنع ورفضها إنجاز عمل غير أخلاقي وهو جمع البنات من أجل العمل بطريقة مخادعة.

يظهر لنا في لحظة بأن الموت هو حبل النجاة الوحيد أمام بديعة، فمشهد السرقة الكبرى (سرقة هواتف الأيفون)، وما تلاه من مشاهد إلى أن تنتهي إلى مشهد إحراق البيت من طرف إيمان، والتي لا نكاد نستعوب أسباب فعلها، لتترك صديقتها في الحمام تنظف ثيابها من أثر البنزين… يعطينا ذلك الاحساس بنهاية فظيعة، ثمة مبالغة وتسرع في تقديم النهاية، وكأن المخرجة انشغلت بتقديم الحكاية، ولم تنتبه إلى كيف ومتى تنهيها، لتبقى هناك فجوة وُكل إلى المشاهد ملؤها من خلال استدعاء المشاهد الأولى من الفيلم، لننتهي إلى شيء وحيد مؤكد في الفيلم وهو مصير بديعة التي انتهى بها المطاف في السجن.

على الرغم من مرور سنوات على إصدار الفيلم (2011)، يبقى للفيلم راهنيته الثابتة، ويظهر معه براعة المخرجة، ومدى جرأتها في تقديم فيلم جيد وعميق، تحاول من خلاله تسليط الضوء على فئة اجتماعية معينة، تعيش وضعا محددا، وسط مجتمع مضطرب وزائف.

لقد نحجت ليلى كيلاني في تقديم حكاية مكثفة حول تجربة عاثرة لفتيات يائسات ومهمشات. وعرفت كيف تقدم فيلما مختلفا عما تعودناه في السينما المغربية، فيلم جريئ الطرح ومتعالي الصدق، مشغول بما يخدم الموضوع دون زيادات أو مساحيق تقنية، حيث ظلت المخرجة طوال الفيلم وفية لمستوى الشكل والرؤيا التي أعلنت عنهما منذ البداية، بل بدت في مشاهد كثيرة كما لو أنها تفرط في أمانتها للعناصر التي تشكل فيلمها.