فن وإعلام

"المثقف" الإنسان أم الإنسان "المثقف"

علي أزحاف
يفقد الكاتب إنسانيته،التي هي الشرط الوجودي الأول الذي يجعل منه "مثقفا"، بالمفهوم التداولي الوظيفي و الإيجابي، أو العضوي، -إذا أخذنا بتعريف غرامشي-، عندما يتوقف عن إنتاج خطاب، إبداعي،أو فكري الخ.. إنطلاقا من وعي تحكمه النظرة النقدية إلى العالم وما ينتج فيه من معرفة وأشكال تعبيرية أخرى، وما يمور فيه من أحداث تجعله يكتسي أهمية في عين الطبقات الإجتماعية المستهلكة لهذه المعرفة... ويتحول إلى محض آلة تنتج آليات تقليدية لتكريس الواقع في جانبه الشعبوي الإستهلاكي، والنفعي...ليصبح الكاتب مجرد حلقة ميكانيكية في سلسلة الإنتاج، لا فرق بينه وبين أي "عامل"، يشتغل داخل منظومة تبرر "الكائن" وتفسره، وتضع ما يجب من المعيقات الإيبيستيمولوجية أمام أي ثقافة، أو فكر مغاير يصبو إلى التغيير وخلق بدائل أخرى، مختلفة وممكنة، تعيد التوازن إلى البنى الإجتماعية المسجونة داخل رؤية أحادية لمفهوم المجتمع والمصلحة العامة،  تخدم مصلحة  جماعة أوطبقة معينة، بفرض سيادة رمزية، معنوية ومادية لثقافة "محظوظة"، على حساب إلغاء، وإقصاء ممنهجين، لكل الأساليب الأخرى التى تسعى إلى إنتاج معرفة، تأبى أن تنصاع لهذه الرؤية البرغماتية، أو تشكل خطرا عليها...
من هنا، ربما، يأتي هذا العقم التاريخي،الذي طال فكرنا وثقافتنا، وأصبح المجتمع ينتج ثقافة محكومة بالتشابه حد الملل، خطاباتها، لا تنتج فكرا، وإنما تردد حيثيات ومسلمات " نقلية"، بعيدة كل البعد عن الإجتهاد "العقلي"، تكرر ما قيل، عوض الابتكار في القول...
سواء على مستوى الخطابات الإبداعية، أو الفكرية، والتاريخية، والشبه- فلسفية...
أصبحنا نعيش عصر الإنسان "المثقف"، عوض المثقف الإنسان، المتعدد في رؤيته النقدية للعالم، وللخطابات السائدة والمكرسة؛ عصر الإنسان "المثقف"، الذي يسير في ظل التاريخ ولا يواكبه، المثقف الذي يعتبر مادة اشتغاله بمثابة رأسمال مادي يرتزق به، و حبل سري يربطه بالطبقات المسيطرة والمتحكمة في سياسات البلدان واقتصادها، عوض أن يرتبط بهموم الناس وقضاياهم الكبرى...
وعندما يتجرد المثقف من "إنسانيته"، بمفهومها الكوني والفلسفي، يصبح مجرد بيدق في لعبة يتحكم فيها الأقوياء، ومحض أداة ميكانيكية، في آلة الإنتاج الكبرى، خاضع لمنطق السوق، وقوانين العرض والطلب، لا ينتج فكرا أو معرفة، وإنما يستهلك أفكار الآخرين، ويخضعها لعملية تعديل نفعية، لتناسب طموحات الطبقات الحاكمة، وتخدم وتدافع عن مصالحها، مقابل الحق في الإستفادة من بعض فتات الإمتيازات والمصالح الآنية، والإنتقال من وضع مادي إلى آخر داخل مراتب سلم الرقي الاجتماعي الإنتهازي...
حين يموت الإنسان داخل المثقف، ويتحول إلى آلة تسوغ واقع الحال وتبرره، يُلغى الوعي النقدي، ويموت الفكر والتفكير، ليصبح المجتمع الثقافي رهينا لقراصنة العصر الجديد، يفقد الإبداع نكهته، ويغرق في روتين التكرار، والتشابه، ويركن العقل إلى مواطن الكسل والجمود..يصبح النقد أناشيدا تشيد وتمدح ، وطبولا تطبل، بعيدا عن أي تجديد أو ابتكار أو إنتاجية مغايرة للسائد الرديء..يصبح الإنسان "المثقف"، مدافعا عن "أجوبة" جاهزة، بدل الدفاع عن الحق التاريخي والوجودي، في طرح الأسئلة؛ الذي هو الشرط الإنساني الوحيد الذي يحقق للمثقف مشروعيته، وشرعيته في الوجود.....