قضايا

تعلم... وتحرك!

مهدي عامري*

ما النموذج الجديد الذي ينبغي أن نروج له في زمن تكنولوجيا الإنترنت وعولمة الأفكار والسيل الهائل من المعلومات؟ هل يجب أن نعلم الطلاب ما يفيدهم ويربطهم بتحديات عصرهم أم إن هدفنا الوحيد حشو الغلاف الزمني لحصص التدريس بنظريات قديمة ومملة غير ذات بعد تجريبي ومنفصلة عن الواقع؟ هل التعلم ما زال مجديا بين أسوار الفصل؟ هل ثمة فائدة لإملاء الدروس والحفظ عن ظهر قلب؟

إن سرعة إنتاج المعارف في 2019 وفي أفق السنوات المقبلة هائلة وفوق خيالنا وتصوراتنا، فهل يحق لنا سجن الطلاب في الجامعات وحصر عملية التعلم في الفضاء الدراسي؟

نريدها جامعة من نوع آخر...

جامعة بلا جدران...

نريد رحلات تعليمية في الجبال والوديان والقرى والصحاري، وعلى الشواطئ وبين أحضان الطبيعة...

الأستاذ تغير دوره، فهو لا يستطيع أن يمد الطالب بالمعرفة ولكنه يسهل له اكتسابها. تريد أن تتعلم بشكل فعال أيها الطالب؟ تريد أن تخلق الاستفادة القصوى في رحلة علمية تعلمية هدفها النجاح وصناعة الشخصية؟

إن تلقين المعارف عوض تجريبها يهدم أكثر مما يبني لأن ما يقابله هو طمس روح الابتكار وإهمال الأنشطة التي تظهر المهارات والمواهب. لا تكتف بما يعطى لك في الدرس أو المحاضرة الفلانية. تحرك أيها الطالب. كوّن نفسك بنفسك واعلم أن أكثر من 80% من تحصيلك العلمي تصنعه بنفسك. سطر لك هدفا واضحا: أن تنمي مواهبك وقدراتك ومعارفك وشغفك بالجديد بالقراءة والسفر والرياضة ومشاهدة الأفلام ومصاحبة الناجحين.

تحرك في هذا الاتجاه!

لماذا تتحرك بدنيا وفكريا في رحلة التعلم؟ لأن قيمة الأفراد والشعوب وقوتها، كما يقول توفيق الحكيم، تُقاس بمقدار حركة الفكر فيها.

لماذا تتحرك؟

قد يبدو هذا سؤالا بسيطا خاصة إذا كانت الإجابة من نوع (كثيرا ما أتحرك وأعمل دون الحصول على نتائج مرضية)... كلنا تعودنا على سماع عبارات من هذا القبيل في الحياة اليومية. هناك الملايين من الناس يتحركون، ولكن وهذا هو المشكل، بلا أهداف ودون استراتيجيات واضحة المعالم. وإذا سمحت لي أن أتقاسم معك تجربتي في تدريس الكبار لأمكن لك أن تفهمني جيدا وتستكشف المعنى العميق للحركة الذي أروج له في كل المحاضرات والمشاريع والتمارين التطبيقية.

هناك عدد غفير من طلبتي يصابون بالذهول في بداية أول لقاء بيداغوجي لي معهم عندما يكون أول ما أقوله لهم: (سأبدأ بالتمارين وأضع لاحقا بين أيديكم بعض المفاهيم النظرية. إن غايتنا في أول تمرين، سأسميه "هرم الحياة"، أن نتعارف جيدا، أن نتواصل، أن نكسر الجليد، أن يأخذ كل طالب 3 دقائق ويجيب على 3 أسئلة كبرى: من أنا؟ ماذا أفعل؟ إلى أين أذهب؟

بمعنى آخر: ما هويتي وانتماءاتي؟ ما أنشطتي وهواياتي؟ ما أهدافي؟ إن جميع الفلسفات والتيارات الروحانية والديانات السماوية والوضعية سعت منذ فجر التاريخ إلى تقديم عناصر إجابة عن هذه التساؤلات الكبرى التي هي في واقع الأمر أسئلة الهوية ومعنى الوجود في الحياة والمصير. وعندما ننجز تمرين "هرم الحياة" نسعد جميعا باكتشاف بروفايلات متميزة للطلاب ونفاجأ بتنوع المواهب: الغناء، الكتابة، الرقص، الرسم...

إن الأفكار الأولى التي أفتتح بها لقاءاتي مع الطلبة دائما ما تكون مليئة بالطاقة الايجابية:

ليس هذا درسا كلاسيكيا قائما على التلقين ولكنه دعوة إلى "التعلم بالمشاريع". يقول أرسطو: "الاستمتاع بالعمل يضفي عليه المثالية"، وهذا ينطبق تماما على المتعة التي تجنيها من مشروعك. إن "التعلم بالمشاريع" مفهوم ثوري، فعندما يكون لديك مشروع فأنت لا تشبه الموظف الذي يصدأ من انتظار راتبه نهاية كل شهر دون اجتهاد في عمله. عندما تكون صاحب مشروع، فإنه يعمل من أجلك. في نهاية مشوارك الدراسي الجامعي ستعمل أجيرا ومنكم من سيخوض مغامرة المشروع الشخصي. إن الأمثل أن يكون هذا المشروع المستقبلي يعمل لأجلك.

تريد مزيدا من التوضيح؟ إليك الأمثلة التي قد تشمل العقارات المستأجرة وحقوق الملكية الفكرية للكتب وبرامج الإنترنت والأفلام والموسيقى والمحتويات الترفيهية الأخرى، والأفكار المسجلة باسمك، والتسويق الشبكي، إضافة إلى خلق مشروع يعمل ليلا أو نهارا وفق نظام محكم لا يحتاج بالضرورة إلى تدخلك. في نهاية الأمر، إنها مسألة فكرة مبتكرة خلاقة بموجبها يعمل المشروع ويقدم خدمات للناس والمجتمع دون أن تعمل أنت.

تحرك وضع جزأ من قلبك وعاطفتك في مشاريعك حتى تتحول إدارة هذه المشاريع إلى لعبة ممتعة ومسلية، فالحياة (كما المشاريع) التى تخلو من العاطفة "ليست غير حركة جافة وصارخة وممزقة"، كما يقول فكتور هوجو.

ابحث لك عن فكرة لمشروع تساعد به المجتمع وتكون بفضله صانعا للأمل والتغيير. "إياك والخلط بين الحركة والفعل"، كما جاء على لسان ارنست همنغواي، فتصورك لمشروع ما حركة لأفكارك، ولكن تنفيذه هو الذي سيخرجه من دائرة التجريد إلى الفعل.

ربما تسألني: وماذا تفعل أنت كأستاذ؟ إن مهمتي أن أضع بين يديك المنهج، وأنير لك الطريق لتصل إلى أقصى أهدافك مع ضمان شعورك بالرضا عن أدائك خلال رحلة البحث. أي نعم، التعليم بالنسبة لي رحلة البحث عن الذات والتعرف على رغباتك العميقة والأصيلة التي لا تشبه غيرها، والتي باقتفائها تخلق التميز والفرق النوعي في حياتك.

ما دوري أنا في هذه الرحلة؟ أن أمسك بيدك حتى تتحرك في الاتجاه الصحيح، أن أكون مرشدا لك دون وصاية أو سلطوية، فأنا لست سوى مرافق ومسهل لعملية التعلم ووحدك القادر على الوصول إلى حالة الاشباع الفكري وتعلم مهارات جديدة، وهذا يتوقف على درجة حماسك وقبولك للحركة والتغيير لأجل تحسين جودة حياتك أولا وفي ما يلي جودة حياة الآخرين.

عندما أتحدث إلى الطلاب من واقع خبرتي الشخصية أقول أيضا لهم:

كل واحد منكم يريد أن يتعلم. أكيد. هناك عدة إشكاليات اجتماعية تريدون أن تغيروها، فأنتم في مقتبل الشباب وتريدون أن يكون جيلكم قائدا لا يشبه غيره... تريد أن تغير العالم؟ ابدأ بنفسك أولا وركز على تطوير مكتسباتك وتوسيع أفق أحلامك والرفع من سقف التوقعات حتى تنال الكثير. إنه لمن الأفضل لي أن أحلم بطاقة 180% حتى أصل إلى 60 أو 70% تقريبا من أحلامي. هذه النسب المئوية مجرد أرقام اعتباطية وأنتم تفهمون المقصود...

ليس هناك من هذه الأفكار والرؤى ما يمكن اعتباره سليما أو خادعا أو حقيقيا أو خياليا 100%، ولكن دافعي هو التجربة والنتائج المشرفة التي حصلت عليها في مهنتي كأستاذ في السنوات الأخيرة. إن الحركة هي أساس النجاح، خاصة إذا كنت تعرف الاتجاه الصحيح وبين يديك بوصلة القيم. فكل ما نعمله ونتحرك لأجله في الحياة ينبع من صميم معتقداتنا وقيمنا الشخصية: التضامن، التعاطف، تكريس النفوذ، قيادة الآخرين، خلق الألفة، نشر المحبة والخير...

وبما أننا نعيش في عالم قائم على التقابلات وازدواجية الخير والشر، فإن هناك قيما بناءة وأخرى هدامة. في حياتنا ثمة بالمثل تقابلات من الأضداد على جميع المستويات: الأبيض والأسود، الغنى والفقر، اليمين واليسار، العلم والجهل، القوة والضعف، العطاء والمنع... كل هذه النماذج قابلة للاختيار وتمنح لكل شخص بصمته الشخصية ولونه المتميز: هل فلان يفكر في سعادة الآخرين؟ هل يركز على نجاحاته بنوع من الفردانية ولا يهمه أن يكون جزأ من نجاح الأغيار؟ هل لديه كامل الثقة في نفسه أم يحتاج دوما لسماع عبارات الإطراء حتى يحس بالتقدير وربما العظمة وينتج جرعات إضافية من القيمة المادية والمعنوية؟

في المقابل، إلى جانب بوصلة القيم هناك ترسانة الأدوات والمهارات. تخيل أنه لدينا كمية كبيرة من الذهب، ذلك أمر رائع، ولكن لصناعة حلي ومجوهرات راقية أين هو الصائغ المحترف؟ هذا هو التحدي.

وبالرجوع إلى تجربتي في التدريس أود أن أضيف أن المتعلم الجيد لهو أكثر من طالب منظم ومرتب ولكنه في مقام المستثمر الذي يهتم بصناعة مستقبله بنفسه. ربما تفكر أنني أبالغ وأن المعرفة منفصلة تماما عن عالم الأعمال لأنها تسخير للعقل المفكر والحركة والاكتساب والفعل.

إن المعرفة استثمار وقوة، والقوة هي القدرة على الفعل... ولعلك سمعت سابقا بهذه المقولة لكني أرددها على مسامعك حتى يستقر في لاوعيك الهدف الذي ينبغي أن يلبيه التعليم المعاصر: حث الطالب على الابتكار والاستثمار لأجل أن يصبح أكثر مناعة وقوة في عالمنا القائم على الربح والمنافسة.

*دكتور خبير في التواصل والتنمية الذاتية