تحليل

لماذا تجب إعادة النظر في الحوار الاجتماعي؟

عبد المطلب أعميار

في سياق النظام الليبرالي العالمي الجديد العابر للقارات، وما يفرضه من توجهات قسرية تخدم اقتصاد السوق في مقابل تقزيم الأدوار الحمائية للدولة، أصبح المجتمع الدولي ينحو نحو إقرار تشريعات جديدة تواكب حجم الإكراهات والتحديات المفروضة في مختلف بقاع العالم، شماله وجنوبه، لصياغة التوجهات الجديدة المرتبطة بمنظومات الحوار الاجتماعي، مع ما تفترضه من ضرورة ملاءمة التشريعات الوطنية لوضع الأسس والقواعد القانونية والمؤسساتية والموضوعاتية الكفيلة بالاستجابة لمتطلبات العدالة الاجتماعية.

وتكفي الإشارة في هذا الصدد إلى التقرير الصادر عن منظمة العمل الدولية (2015) الذي ينص على ضرورة توفير الآليات الكفيلة بتحقيق الحوار الاجتماعي ضمن إطار مؤسساتي يشمل كل القضايا المتعلقة بالسياسات العمومية، والبرامج الماكرو اقتصادية، والنمو، والسياسات الصناعية والقطاعية، والحماية الاجتماعية، وسوق الشغل، والسلامة المهنية، والسياسات المتعلقة بالمقاولة...الخ.

كما أشار البرنامج الدولي للتنمية المستدامة (2015-2030) إلى ضرورة مأسسة الحوار الاجتماعي في كل القضايا المتعلقة بالشباب والشغل والتعليم. وذهبت اللجنة الدولية لحقوق الإنسان (أبريل 2016) المكلفة بمتابعة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى إقرار ضرورة "وضع تدابير لتيسير الحق في العمل، وتعزيزه بطرق تشمل التفاوض الجماعي والحوار الاجتماعي..".

وعلى المستوى الوطني فإن الحوار الاجتماعي لم يترسخ بعد كممارسة مؤسساتية خاضعة للقانون، إذ مازال موسميا وخاضعا للتقديرات السياسية والاجتماعية للحكومة في علاقتها بباقي الأطراف؛ فمنذ إحداث ما سمي "المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي" (نونبر 1994)، مرورا بالحوارات الحكومية مع الأطراف الاجتماعية وما تمخض عنها من اتفاقيات (غشت 1996-أبريل 2000-أبريل 2003-أبريل 2011) مازال الحوار الاجتماعي بعيدا عن المتطلبات الحقيقية لمجابهة الأسئلة الاجتماعية الكبرى الكفيلة بتحقيق التوازنات الاجتماعية، وأسس العدالة الاجتماعية.

وأشارت الرسالة الملكية الموجهة إلى الدورة الثانية من المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية (فبراير 2017) المنظم من طرف مجلس المستشارين إلى الأهمية الإستراتيجية للحوار الاجتماعي، داعية إلى ضرورة الانتقال إلى منظومة جديدة عبر مأسسة آلياته.. "ليس فقط في القضايا الكلاسيكية لعلاقات العمل، وإنما أيضا في مختلف القضايا المتعلقة بمنظومة العمل اللائق بمفهومها الواسع. ويستلزم ذلك من الناحية المنطقية التفكير في معالم المنظومة الجديدة للحوار الاجتماعي، كإحدى آليات الديمقراطية التشاركية، ومرتكزات السلم الاجتماعي".

وقد وقفت الرسالة عند بعض القضايا التي ينبغي استحضارها في الحوار الاجتماعي، من قبيل "التنمية المستدامة" و"النمو الاقتصادي"، و"العمالة المنتجة" و"العمل اللائق"..

إن هذه القضايا، وأخرى، يمكن أن تشكل مادة جوهرية في الانتقال إلى نموذج جديد من الحوار الاجتماعي، يستحضر، بالضرورة، محدودية الحوار الاجتماعي كما هو معتمد في بلادنا منذ سنوات، حيث يظل حبيس الظرفية السياسية، والمزاجية الحكومية، وبعض التوترات الاجتماعية الطارئة؛ كما أنه يظل مرهونا بنفس المواضيع التي تؤطره (الزيادة في الأجور-نظام التعويضات-الحد الأدنى للأجور..)، في حين أن العديد من القضايا أو القرارات ذات الأبعاد الإستراتيجية لا تجد لها موقعا فيه (الخيارات المالية- التوازنات الماكرو اقتصادية- السياسات العمومية- المديونية- الولوج المتكافئ للشغل- التكوين المهني)؛ كما أن العديد من الفئات الاجتماعية تجد نفسها خارج جدول أعماله (- التجار- الحرفيون- الباعة المتجولون-المهن الحرة-الصناع- المقاولات- العمال الزراعيون- القطاع الفلاحي- الأشخاص في وضعية إعاقة- المسنون- المهاجرون- النساء- الأطفال..).

وهذا يستدعي تحقيق التكامل الوظيفي والمؤسساتي بين العديد من القطاعات والمؤسسات الدستورية ذات الصلة، وتحقيق الالتقائية المطلوبة بين مختلف البرامج الاجتماعية (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي-المجلس الأعلى للوظيفة العمومية-المجلس الوطني لحقوق الإنسان-مؤسسات الحماية الاجتماعية والصحية وأنظمة التقاعد...).

إن الانتقال اليوم إلى منظومة جديدة للحوار الاجتماعي يفترض وضع قانون يؤطر هذا الحوار- على المستوى المركزي والجهوي والاقليمي- بإدماج كل الفرقاء الاجتماعيين، والاقتصاديين، والمجتمع المدني بما يضمن لهذا الحوار انتظاميته في الزمن، وتمكينه من الأسس القانونية ليلعب أدواره المجتمعية كآلية حقيقية للوساطة، وللتوازن الاجتماعي، وللاستباقية في معالجة كل المشاكل والتوترات المجتمعية الطارئة، وكمؤسسة فعلية لضمان قواعد العدالة الاجتماعية؛ ولن يتحقق ذلك إلا بوضع الأسس القانونية التي تمكن الحوار الاجتماعي من تقييم وتتبع السياسات العمومية، ومختلف التشريعات ذات الصلة، وكذا من أجل ترسيخ الضمانات الدستورية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية، وقواعد الحكامة، والعدالة المجالية، والالتزام باحترام العهود والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.