تحليل

درس دبلوماسي

ياسين احميداني

ما وقع بين المملكة المغربية وجارتها الشمالية اسبانيا، وكيف دبر المغرب ما سميت “أزمة” بين البلدين، ينبغي أن يلقن للأجيال القادمة كتمرين دبلوماسي نخبوي رفيع.

ولعل المتأمل لمسلسل “الأزمة” سيلتقط أمرا جوهريا، هو أن بدايتها كانت من معلومة حول ولوج المسمى “غالي”، قائد الكيان الوهمي، إلى التراب الإسباني بهوية مزورة، حيث تواجد بأحد المستشفيات قصد العلاج، وهي المعلومة ذاتها التي أجيد توظيفها واستثمارها في هذا البناء الدبلوماسي البديع.

معلومة واحدة كانت كافية لكشف الجارة الشمالية أمام حقيقتها من حيث لم تتوقع ومن حيث لم تدر، فوضعتها في مواجهة الرأي العام الإسباني حول تمييزها بين مواطنيها، على اعتبار أن بعض المشتكين الذين تقدموا في مواجهة المعني بالأمر بشكاية هم مواطنون إسبان.

وفضلا عن كشف حقيقة الجارة الشمالية وحقيقة موقفها من القضايا السيادية الإستراتيجية للمملكة، وفضلا عن كون المغرب أبان من خلال المعلومة عن قوة استخباراتية عالية صعقت إزاءها الجارة التي حاولت جاهدة التستر على الموضوع بكل ما أوتيت من وسائل، قبل أن تنتقل لتبرير ذلك بمبررات مختلفة ومتذبذبة…فضلا عن ذلك فقد وضعتها المعلومة في موقف محرج تجاه شركائها الأوربيين، بعدما حاولت استمالتهم في أزمتها وإقحام دول “شينغين” عبر تصدير بيان محتشم استغلت فيه قضية القاصرين المتواجدين بأوربا في وضعية غير شرعية؛ وأتاحت معها الفرصة أيضا لإبراز المغرب كقوة إقليمية وازنة من خلال خروج البرلمان الإفريقي ببيان يدعو فيه البرلمان الأوربي إلى عدم التدخل في أزمة ثنائية بين بلدين يمكن حلها عبر كل الوسائل الدبلوماسية والمفاوضات الثنائية.

والمتأمل أيضا لا بد أن يسجل خطاب الدبلوماسية المغربية، ممثلة في وزارة الخارجية وكذا تصريحات سفيرة المملكة بمدريد، وهو الخطاب الذي ظل يتدرج صعودا، محافظا على هدوئه وثباته.. والأهم، محافظا على نديته التي تعكس وضعية المغرب كدولة قوية تدافع عن مصالحها الحيوية ندا للند.

لكن الأهم في خطاب الدبلوماسية المغربية ليس ما جاء في البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية المغربية، ولا توقيتها المدروس والمختار بعناية فائقة، ولا المضامين التي كانت تحملها، بل إن قوة الخطاب في الكلمات التي لم تقل وفي الأفكار التي لم يصرح بها، فصار المسكوت عنه أقوى بكثير من المعلن، في تمثل حقيقي للمقولة الشهيرة بأن الدبلوماسية هي فن معرفة ما لا يجب أن تقوله.

قوة خطاب الدبلوماسية كانت في ما طرح من ملفات بشكل غير مباشر جعلت الجارة الشمالية في مأزق حقيقي، وكلفها الكثير، ليس فقط دبلوماسيا، ولكن أيضا اقتصاديا.

المملكة المغربية، بقيادة أمير المؤمنين، تبصم كعادتها على مسار دبلوماسي رفيع ومميز، ينهل من تاريخ عريق وحنكة دبلوماسية شاهقة.