قضايا

العرض السياسي للبيجيدي نكوص وانفصام

سعيد الكحل

إن قيادة حزب العدالة والتنمية ، وهي تصوغ “العرض السياسي” للحزب ، تعاملت مع الشعب المغربي وكأنه بدون ذاكرة أو بصيرة أو فاقد لهما.

وهذا العور السياسي جعلها تعتبر من “الكسب السياسي” لرئاسة الحزب للحكومة “المحافظة على مستوى مقبول من الدين العمومي”.

بينما خبراء الاقتصاد يحذرون من أن المديونية وصلت في عهد حكومة البيجيدي ، لمستويات خطيرة لم تصلها في تاريخ مغرب الاستقلال . فالأرقام الرسمية تشير إلى أن الديْن العمومي الإجمالي بات يمثل 95 % من الناتج الداخلي الخام لعام 2020 ؛ مما جعله يتجاوز الخط الأحمر المعتمد من طرف الاتحاد الأوربي وهو 60 %.

هذا الارتفاع سينعكس مباشرة على الاستثمارات العمومية بسبب خدمة الدين الخارجي التي تستنزف الملايير سنويا ( تم رصد 21.6 مليار درهم خلال الفصل الرابع من 2020 لهذه الغاية). الأمر الذي بات يرهن مستقبل الأجيال القادمة بيد الدوائر المالية العالمية التي فرضت على حكومة البيجيدي جملة من القرارات والإجراءات التي انعكست سلبا على الخدمات الاجتماعية التي وعد البيجيدي بتوفيرها وتجويدها للمواطنين (الصحة ، التعليم ، الشغل ، الرفع من الأجور ..).

فعلى مستوى هذه الخدمات يحتل المغرب المراتب الأخيرة عالميا ، مما يبيّن أن القروض وأموال صندوق المقاصة التي وفرتها الحكومة من تحرير أسعار المحروقات لم توجّه إلى القطاعات الاجتماعية .

ونظرا لافتقار البيجيدي إلى الأطر والكفاءات ، وكذا تهميشه للأطر والخبرات الوطنية ، لم يكن لديه من سبيل لتمويل الخزينة العامة سوى الاقتراض وتحرير الأسعار .

وكان من نتائج تحرير أسعار المحروقات وتجميد الأجور ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية جعل عتبة الولوج إلى الطبقة الوسطى بالمغرب ترتفع مقارنة مع دول أخرى ، بحيث صارت ــ العتبة ــ بالنسبة لأسرة مكونة من أربعة أشخاص هي 10 آلاف درهم كدخل شهري قار ، بينما متوسط الدخل الأسري حاليا هو 7661 درهما. إن كل الإجراءات والقرارات التي اتخذها البيجيدي على رأس الحكومة أجهزت على الطبقة الوسطى ؛ الأمر الذي يتنافى مع الإرادة الملكية في تقوية هذه الطبقة وتوسيع قاعدتها ، كما جاء في الخطاب الملكي بمناسبة ثورة الملك والشعب لسنة 2019 (والمغرب ولله الحمد، بدأ خلال السنوات الأخيرة، يتوفر على طبقة وسطى تشكل قوة إنتاج، وعامل تماسك واستقرار.

ونظرا لأهميتها في البناء المجتمعي، فإنه يتعين العمل على صيانة مقوماتها، وتوفير الظروف الملائمة، لتقويتها وتوسيع قاعدتها، وفتح آفاق الترقي منها وإليها).

لقد اتسعت رقعة الفقر بسبب سياسة البيجيدي القائمة على تفقير غالبية الشعب ، بحيث انتقل المعدل الإجمالي للفقر على المستوى الوطني من 13,6 بالمائة إلى 22,1 بالمائة وفقا لنتائج البحث الوطني حول استهلاك ونفقات الأسر المغربية الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط.

كما كشفت معطيات البحث الوطني حول مصادر الدخل ، أن مستوى المعيشة بين سنتي 2013 و2019 سجل تراجعا مقارنة بمرحلة 2006-2013. أما ما يزعمه “العرض السياسي” من “تشجيع الشباب على الاستثمار من خلال صندوق المبادرة المقاولاتية” ، فإن مبادرة إحداثه ــ الصندوق ــ تفضل بها جلالة الملك وأشرف على إعطاء انطلاقتها في غياب كلي لرئيس الحكومة.

وما ينبغي تذكير قيادة البيجيدي به هو أن أعضاء منها وفقهاء من حركة التوحيد والإصلاح هاجموا المبادرة “وحرّموا” الاستفادة من تمويلاتها بفتاوى شاذة تستهدف إفشال المبادرة الملكية .

من أوجه الانفصام التي طفح بها “العرض السياسي” تبجّحُ قيادة البيجيدي بـ”الرفع غير المسبوق لميزانية القطاعات الاجتماعية لا سيما في قطاعي الصحة والتعليم”.

ومن يصدق هذا الهراء سيعتقد أن الخدمات الاجتماعية متاحة للجميع بالتساوي ؛ بينما مواقف الحزب عبر برلمانييه منافية لما تزعمه قيادته .

ذلك أن البيجيدي جند نوابه بالبرلمان للتصدي لمطالب الرفع من ميزانية التعليم والصحة . وكذلك كان ، حيث تصدوا لمقترح فيدرالية اليسار وكذا حزب الاستقلال الذي طالب بالرفع من عدد الأطر الطبية وعدم إلغاء مناصب المحالين على التقاعد .

فميزانية وزارة الصحة لسنة 2014 لم تتجاوز 12.92مليار درهم (1.29 مليار دولار) ، وبالكاد بلغت سنة 2019، 16 مليار و 331 مليون درهم ، أي ما يمثل 6،56 في المائة من الميزانية العامة للدولة ، وهي نسبة تمثل أقل بكثير من تلك التي توصي بها منظمة الصحة العالمية ( 15 أو 16 في المائة من الميزانية العامة للدولة). والارتفاع الذي عرفته الميزانية ، ليس مبادرة من الحزب ولا اجتهادا منه ، وإنما يرجع إلى جائحة كورونا والمبادرة الملكية بإحداث الصندوق الخاص بتدبير الجائحة .

كان ، إذن ، على قيادة الحزب أن تخجل من كون نسبة التأطير الطبي بالكاد تبلغ 2.32 إطار طبي لكل 10 آلاف نسمة في سنة 2021 ، وفق تصريح وزير المالية ؛ مما يُبهت التبريرات التي قدمها بنكيران لقرار تحرير أسعار المحروقات لدعم الخدمات الاجتماعية.

فلا شك أن الوضعية التي صار عليها قطاعا التعليم والصحة منشؤها السياسة التي ينهجها البيجيدي والتي سبق وحددها بنكيران عند رئاسته للحكومة حين أعلن أن “على الدولة أن ترفع يدها عن الصحة والتعليم” ، أو حين انتفض لحسن الداودي أمام البرلمانيين أن “لي بغا يقري ولدو يدير يدو فجيبو” .

فالبيجيدي يرى في هذين القطاعين مجالا لتبذير المال العام . لهذا أجهز عليهما حتى يوفر الشروط الضرورية لهيمنة القطاع الخاص .

ضمن هذه الإستراتيجية نفهم مناهضة البيجيدي لقانون التربية والتكوين الذي يعتمد تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية ، علما أن أعضاء من الحزب يستثمرون في التعليم الخصوصي ويعتمدون اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية ، بل يدرّسونها لأبنائهم ويمنعونها عن بقية أبناء التعليم العمومي . فلا ولاء لهم للوطن وللشعب .

(يتبع).