مجتمع وحوداث

عبد النباوي.. القاضي مطلوب منه التحري عن الحقائق والبحث عنها والحكم عليها بميزان العدل والنطق بها بلغة القانون

كفى بريس

قال محمد عبد النباوي، الرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إن الاجتماع بالمسؤولين القضائيين، في هذه الفترة مليء بالدلالات الإيجابية. فهو يأتي عقب تعيين الملك لأعضاء جدد بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. وتبنِّي النموذج التنموي الجديد، وكذلك قُبَيْل إجراء الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والجهوية والمحلية، وفي أفق انتخاب ممثلي القضاة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. وهو ما يدل على أن السنة القضائية الجارية ستكون حافلة بالمهام الجسام، التي يتعين على المحاكم الاستعداد لها.

وأضاف عبد النباوي في كلمته اجتماع المسؤولين القضائيين عن محاكم الاستئناف، الخميس، أن هذا الاجتماع يأتي بعد صدور قرار جديد بإعادة تشكيل الهيأة المشتركة للتنسيق في مجال الإدارة القضائية، والذي عمل على تجميع مؤسسات العدالة الثلاث العاملة بمحاكم المملكة داخل نفس الهيأة من أجل التنسيق في مجال الإدارة القضائية. وهي الهيأة التي ضخت دماء جديدة في قلب العدالة النابض. وتعمل على دراسة مشاكل الإدارة القضائية بتفان ونكران ذات، وتبحث لها عن الحلول الملائمة باستحضار مصلحة العدالة وحقوق الأطراف. وذلك منذ اجتماعها الأول بمقر المجلس فور توقيع القرار المشترك يوم 06 أبريل 2021. وبذلك تقدم مؤسسات العدالة الرسمية أول جواب على ملاحظات اللجنة الخاصة بنموذج التنمية الجديد التي اعتبرت فيها عدم التوزيع الواضح لأدوار الفاعلين المؤسساتيين، والغموض الذي تتسم به العلاقات بينها من أسباب ضعف النظام القضائي، والتي تجعل المجتمع المغربي عاجزاً عن تحديد المسؤول عن الاختلالات التي تشهدها العدالة. وبطبيعة الحال، فإن أول الغيث قطرة، وأن جهود مؤسسات السلطة القضائية والوزارة ستستمر لملأ الفراغات وتوفير أدوات التعاون والتنسيق، والتي يتعين أن تشمل جميع مكونات العدالة، ولاسيما المهن القضائية التي هي جزء أساسي وحاسم في منظومة العدالة.

واغتنم عبد النباوي المناسبة، ليتقدم بالشكر لرئيس النيابة العامة ومساعديه، وكذا لوزير العدل وإدارة الوزارة، ولأعضاء المجلس وأطره، على التنسيق المحكم، والنقاش الجدي والهادف، الذي يطبع اجتماعات الهيأة المشتركة، "والذي نامل في جني أحسن ثماره في القادم من الأيام إن شاء الله."

ومن جهة أخرى، يوضح عبد النباوي، فإن هذا الاجتماع يأتي بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على نشر مدونة الأخلاقيات القضائية التي جعلت من الرؤساء الأولين والوكلاء العامين للملك بمقتضى مادتها الثالثة والثلاثين مستشارين للأخلاقيات، "وأناطت بكم عدة مهام ترمي إلى إشاعة وتعميم المبادئ الأخلاقية، والتحسيس بها، والحث على احترامها. وكذلك مساعدة القضاة بالنصح والإرشاد، في حالة مواجهة صعوبات أو إشكاليات تتعلق بكيفيات تطبيق وتفسير التزاماتهم الأخلاقية. كما جعلت المدونة منكم أُمَنَاء على الأخلاق القضائية في دوائر نفوذكم، وبذلك فأنتم مدعوون إلى تبليغ لجنة الأخلاقيات بالمجلس بكل الخروقات، وبتقديم تقرير سنوي عن حصيلة ما قمتم به في هذا الصدد."

وتابع عبد النباوي كلمته، مبرزا أنه "ينضاف إلى كل هذه الأحداث استمرار جائحة كوفيد 19 في فرض إكراهاتها على الحياة العامة ببلادنا وبمختلف دول المعمور، وهو ما أثر ويؤثر على سير منظومة العدالة، وغيَّر من أساليب القضاء، حيث أصبحت المحاكم مضطرة لعقد بعض جلساتها عن بعد واسْتِحْدَاث أساليب رقمية تُغْنِي عن التواصل الجسدي المباشر للأطراف. ورُبَّ ضارة نافعة، فهذه مناسبة لكي يتم التقنين لرقمنة المحاكم، والتنظيم القانوني للمساطر والإجراءات القضائية المعلوماتية، التي تعتبر وجه العدالة في القادم من الأيام بلا ريب. والفوز للسابقين."

وسجل عبد النباوي، أن هذا اللقاء الذي يأتي في خضم الأحداث المذكورة، ومع بداية الانفراج الصحي الذي حققته بلادنا في محاربة الكوفيد، بقيادة الملك محمد السادس والحرص المتميز من جلالته على صحة المواطنين وضرورة حمايتهم، لم ينقطع منذ ظهور الوباء خلال شهر مارس من السنة الماضية، يجمع (هذا اللقاء) أطراف المحكمة الثلاث الممثلين في الوزارة المكلفة بالعدل ورئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية. وهي رسالة يود المسؤولون المركزيون أن يوضحوها لكم أنتم المسؤولون عن القضاء في جهات المملكة. والتأكيد لكم عن ضرورة تآزر الجهود وتوحيدها لأجل السير السليم للمحاكم، التي وإن كانت تؤدي خدمات قضائية صرفة، فإنها محتاجة إلى إدارة قضائية وموارد بشرية ومادية للوفاء بمهامها، وتطبيق برامجها. وأنتم، تمثلون رمز القضاء في جهاتكم، ولكنكم كذلك مسؤلون عن الإدارة القضائية، التي تتطلب منكم حسن تدبير الموارد المختلفة الموضوعة رهن إشارتكم، وتسخيرها لخدمة قضايا المتقاضين ومبادئ العدالة."

شدد عبد النباوي في كلمته، على ان "المسؤول القضائي قيمة قضائية عظمى تتقاطع فيها قيم العدالة الفضلى، وكفاءات التدبير الإداري المثلى. فهو الأستاذ في علوم القضاء المتملك لتقنيات القانون، يغدقها على مرؤوسيه ومساعديه، بل على المحيط الذي يمارس فيه. وهو رمز الخلق القضائي يجسد كرامة المهنة ووقارها، ويمثل القدوة والنموذج في الأخلاقيات بسلوكه الجدير برمز قضائي يُحْتَدى به من قبل مَنْ حولَه. وهو الشجرة الوارفة الظِّلال التي يُسْتَظَلُّ بِظلها في التجربة والخبرة وحسن المشورة وسداد الرأي. كما أنه المدبر الإداري القادر على حل الأزمات وفظ النزاعات وتسوية الخلافات، بما يمتلكه من حسن إصْغاء وقرب من الناس حتى في بعده عنهم. فهو يحس بهم ويحسون بوجوده بينهم دون أن يختلط بهم أو يندمج معهم. فهي مسافات تقاس بالإحساس وليس بالأرقام، يحس فيها القضاة والموظفون والمهنيون ومرتادو المحاكم بمختلف مشاربهم أن المسؤول أب لهم يرعاهم ويسهر على راحتهم ويدبر مصالحهم العامة ويراعي احتياجاتهم الخاصة، وأنه حاضر لسماع شكواهم وحل الإشكاليات التي تعترضهم، فيتولد لديهم إحساس بقبول ملاحظاته كتوجيهات، ينفذونها برغبة أكثر مما يحسون بها أوامر يُنفذونها وهم كارهون."

المسؤول القضائي، يضيف عبد النباوي، هو عصب الحياة في المحاكم ومحور سيرها، إذ حوله تدور كل ذراتها. فهو بمثابة صاحب مقاولة إنتاج في زمن الحرب، أو ربان سفينة في أعالي البحار تتقاذفها الأمواج. إذا نجح رَئيس المقاولة ازداد إنتاجها وعلت قيمتها وغطت منتجاتها احتياجات الناس ... وإذا كان ربان السفينة ماهراً في قيادتها تخطى بها الأمواج العاتية وأرساها في البر الآمن بما حملت من بشر ومتاع. وإذا أجادَ المسؤول القضائي تسيير محكمته، أعطى للناس اطمئناناً على حقوقهم وأملاً في قضاء بلادهم، وثقة في المحاكم، تساعد كل مبادرات التنمية التي تنهجها الدولة على التطور والازدهار.

المسؤول القضائي الناجح، يؤكد عبد النباوي، قادر على تكوين مساعديه الذين يحتاجون لتكوين. وقادر على تعديل سلوك مَنْ سلوكُهُ غيرُ مستقيم، وقادر على ضبط أداء محكمته ومحاكم دائرته إذا فرض نظاماً للتسيير ونظاماً للمراقبة.

المسؤول القضائي الناجح، قادر على صنع الخلف وإنتاج البذور الصالحة التي تملأ فضاء العدالة في المستقبل وترفع من وثيرة أدائها ... فالعلم والمعرفة والخبرة هي وحدها الثروات التي إذا أُعْطِيت أفادت الغير دون أي يَنْقُص رصيد مانحها.

ويوضح عبد النباوي، أنه "لا يمكن للمسؤول القضائي أن ينجح في مهامه إذا لم تكن له لوحة قيادة تضبط خطوات طريقه، وتبين الأهداف والمؤشرات التي يقاس به خط سيره، فالوقت لم يعد ملائما لمسؤولين لا يضعون أهدافاً لعملهم ولا يرسمون معايير لقياس أدائهم. وهي معايير مختلفة بعضها مادي يتمثل في الوصول إلى نسبة معينة من القضايا المحكومة أو المنفذة للتعبير عن إنجاح الأهداف الكمية مثلا. وتخفيض نسبة الأحكام الملغاة من قبل محاكم الطعن لقياس جودة الأداء النوعي مثلاً. وقد تتعدى ذلك لتلامس نسبة ثقة الرأي العام في العدالة."

واستشهد عبد النباوي بالرسالة الملكية السامية لمؤتمر العدالة الأول بمراكش سنة 2018 : "الحصن المنيع لدولة القانون، والرافعة الأساسية للتنمية" واعتبرها جلالته : "تحدياً آخر يجب رفعه بتطوير العدالة وتحسين أدائها، لمواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية".

وواصل عبد النباوي كلمته، بالتأكيد على أن "رئيس المقاولة أو قائد السفينة لن يكون ناجحاً في مهمته إذا أغمض عينه وترك المخربين يحطمون أدوات الإنتاج أو يسرقون منتوجات المقاولة أو يحدثون ثقوبا في السفينة أو يتلفون قوارب النجاة .. والمسؤول القضائي لا حظَّ له في النجاح إذا لم يواجه الفساد بصرامة قوية وإرادة صلبة وعزم لا يلين. فدور المسؤول القضائي الذي يعلو على كلِّ أدواره الأخرى، هو نشر قيم النزاهة والاستقامة وحماية استقلال القضاء وحياد القضاة وتجردهم .. ولذلك فلن يقبل من المسؤول أن يغض الطرف عما يخدش في هذه القيم، ويضر بتلك المبادئ."

وقال عبد النباوي، "نحن جميعاً مستأمنون على مبادئ العدالة وقيم الأخلاق القضائية .. ولذلك فإن واجبنا حمايتها وصيانتها والذوذ عنها بكل الوسائل المشروعة. وإن المجلس الذي يسعى إلى تقوية دور المسؤول القضائي، باعتباره المؤطر المهني، ومستشار الأخلاقيات، والمسؤول عن حسن أداء المحاكم والقيِّم على إدارتها، يسعى كذلك إلى ضبطٍ أكثر لاختياراته للمسؤولين القضائيين، عن طريق تأطيرها بالمعايير القانونية والواقعية وإسنادها لمن يستحقها على أساس وضع الإطار المناسب في المكان المناسب. وسنحرص – إن شاء الله – على جعل المسؤولية ميثاقاً وتعاقداً على الوفاء بالبرنامج الذي يقدمه المترشح للمسؤولية يقاس على أساسه نجاحه أو إخفاقه في مهمته. ولذلك فإنه مطلوب منكم تحديد برامج عملكم وترتيب أولوياتكم في مختلف مجالات عملكم، والسعي إلى تحقيقها وفقاً لمؤشرات النجاح، فربط المسؤولية بالمحاسبة يقتضي محاسبة الذات أولاً، ومحاسبة كل مسؤول عما عهد به إليه ثانياً."

وقال عبد النباوي، "إن المسؤولية تقتضي الحضور المتواصل بمكان العمل لتتبع الأشغال والإشراف على مرافق المحكمة وفتح الأبواب أمام المتقاضين والاستماع للمساعدين والتدخل الآني والمباشر، كلما اقتضى الحال ذلك. ولست أريد بهذه الكلمة أن أثبط عزم البعض، ولكني أريد فقط أن أقول أن المرحلة الراهنة تقتضي تواجدكم بأماكن عملكم للاضطلاع بمسؤوليتكم. وأن النظام القضائي يحتاج إلى جهودكم وإشرافكم المستمر على مرافق محاكمكم بما يلزم من الحزم والحرص، وإن اقتضى الحال بقبضة حديدية عليها قفاز من حرير."

وأبرز عبد النباوي، أن "الدستور لا يُلزم القضاة سوى بتطبيق القانون تطبيقاً عادلاً. وإن التمعن في هذا المقتضى الدستوري الذي نص عليه الفصل 110 من دستور المملكة يؤدي إلى نتيجة هامة مؤداها تسخير النص القانوني لتحقيق العدل والإنصاف."

 ولذلك، يوضح عبد النباوي، "فالقاضي مطلوب منه التحري عن الحقائق والبحث عنها والحكم عليها بميزان العدل والنطق بها بلغة القانون. والحاكم إذا اجتهد فأخطأ له أجر واحد، وإن أصاب له أجران .. والمغزى العميق لهذا الحديث الشريف، أن حكم القاضي لابد أن يصدر بعد درس وتحرٍّ وبحث، وعن فقهٍ وعِلم واجتهاد، وليس باستخفاف وعدم عناية، أو بدون اهتمام أو دون تحقق أو درس عميق. فالأحكام يجب أن تجيب على كل الدفوع وترد على الطلبات وتناقش كل الوسائل. ويتعين أن توفر حيثياتُها أجوبة على تساؤلات المنتقدين والدارسين، بالإضافة إلى دفوعات الأطراف المعنيين. وتكون مستندة لنصوص القانون وللاجتهادات المستقرة، وتعكس منطق الإنصاف ومبدأ العدل. وهي فوق ذلك يجب أن تَصدر في وقت معقول وأن تنفذ في زمن ملائم. ودوركم هو المساهمة في نشر هذه الثقافة والدفاع عنها وترسيخها بالتحسيس والترغيب، وإن اقتضى الحال بالطرق القانونية المناسبة."

وختم عبد النباوي كلمته، بالإشارة إلى أن "المجال الزمني لا يسمح بأكثر من هذا. وخير المقال، ما قَلَّ ودَلَّ. ولذلك أرجو أن يعتبر هذا اليوم منطلقا جديداً لنا جميعاً، نراجع فيه ما حققناه وما يُنْتَظر منَّا تحقيقه، وأن نسعى إلى تدارك ما فات، وزرع روح الجد والاجتهاد في القضاة والموظفين الذين يمارسون عملاً موسوماً بالطبيعة القضائية. وآمل أن تعلنوا في نهاية السنة عن نتائج جيدة، سواء من حيث الكم أو الكيف، وأن تسعوا إلى تحسين منسوب الثقة في القضاء بكل الوسائل التي تحقق هذه الغاية. حتى نكون جديرين بالرعاية الملكية التي يشمل بها جلالة الملك القضاء، والتي صرَّح جلالته في الرسالة السامية لمؤتمر العدالة الأول بقوله السديد أنها : "تعبيراً عن المكانة المتميزة التي تحظى بها السلطة القضائية لدينا، والعطف الموصول الذي نسبغه على مؤسساتها وأعضائها". وهو قول يدعونا للمزيد من العمل لاستحقاقه."