قضايا

زيف الديمقراطية الإسبانية

علي السعماري*

القاعدة العامة هي أن سياسة كل دولة ترتكز، في جميع الأحوال، على حماية مصالحها. وهذا أمر متعارف عليه دوليا وأنشئت من أجل ذلك مجموعة من القوانين والأجهزة التي تسهر على تدبيرها. بيــد أن هذا لا يعني السماح بالدوس على الحد الأدنى من القيم والمبادئ المتعارف عليها دوليا، خاصة بيــن الدول التي تربطها علاقــة وطيدة وشراكة في شتى المجالات. سنحاول من هذا المنظور تناول خلفيات وتداعيات الفضيحة التي كشفت عن سوأة الحكومة الإسبانية والشرذمة العسكرية الحاكمة بالجزائر.

من المفارقات الغريبة، تواطؤ الحكام الإسبان، وبصفة خاصة القائمين على تدبير الشأن الدبلوماسي في هذا البلد، يعتبر يا حسرتاه بلد الديمقراطية ويتبجح حكامه بأنهم من المدافعين عن حقوق الإنسان وما إلى ذلك من القيم والأخلاق الانسانيـة، مع عصابة حكام الجزائر في مؤامرة دنيئة وبأسلوب منحط لا يليق بقيادات دول ذات سيادة. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: كيف ولماذا زج المسؤولون الإسبان بأنفسهم مجانا في فضيحة أصبح يطلق عليها “إبراهيم غايت”؟

هذه الفضيحة كشفت عن سوأتهم وأزاحت الستار عن زيف ديمقراطية بلدهم. فما أقدم عليه هـــؤلاء من تصرف سافـر لا تقوم به إلا عصابات التهريب والاتجار بالبشر وقطاع الطرق، حيث لا يستسيغ العقل أن يسمح حكام بلد يندرج فرضا في عداد الدول الديمقراطية بإدخال مجرم بوثائق مزورة مبحوث عنه من طرف قضاء بلدهم مهما كانت الظروف والدواعي. وهذا الفعل يطرح أكثر من تساؤل يستعصي فهمه حتى من طرف من اتخذ هذا القرار، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لأكثر من تأويل وعلامة استفهام.

ولا نريد الخوض في أسباب هذا المستنقع الذي وقعت فيه حكومة سانشيز التي تصرفت بغباء وتواطأت مــع عصابة العسكر الجزائرية ضدا على مصلحــة المغـرب الشريك الأساسي له في المنطقة.

واعتبار لما حظيت به هذه الفضيحة المدوية من اهتمام، إن على المستوى الإقليمي أو الدولي، والضجة التي أحدثتها داخليا وخارجيا، سأحاول التطرق لبعض الاستنتاجات التـي صاحبت هذه الفضيحة التي مرغت سمعة حكام مدريد في الوحل وكشفت تفوق مكر جنرالات الجزائر على بلادة حكومة إسبانيا.

أولا، حنكة وحرفية المخابرات المغربية التي كشفت عن هذه المؤامرة في المهــد، الشيء الذي جعل سلطات البلدين المناوئين للمغرب في حيرة من أمرها. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على علو كعب المخابرات المغربية التي تحظى باعتراف وتقدير أعتى الأجهزة الاستخباراتية العالمية.

ثانيا، نجاح الدبلوماسية المغربية في التعاطي مع هذا الموضوع بشكل محكم وبتجرد وموضوعية جعل الخصوم قبل الأصدقاء يشيدون بها ويعترفون بقوة المغرب وبمواقفه الثابتة وسياسته الرشيدة تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس الذي لا يظلم ولا يظلم عنده أحد.

ثالثا، وقوف الشعب المغربي قاطبة وراء مؤسساته دفاعا على القضية الوطنية التي تندرج في عداد أولوياته، واستعداده للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها وعن حقوقه المشروعة، وإبانته أن مصالحه ليست محل مساومة ولا يمكن السماح لأي كان التطاول عليها، وإدراكه أنه في أوقات الشدة يجب عليه أن يعول على نفسه ويهتم بشؤونه أولا، لأن هذه المحنة أعطت لنا درس انتمائنا الإقليمي الذي ينتفي فيه ذاك الإحساس الوحدوي كما هو الشأن في أوروبا التي ساندت وآزرت إسبانيا بدون أدنى تحفظ.

رابعا، زيف الديمقراطية الإسبانية وهشاشتها أمام هذه الورطة العسيرة للدبلوماسية الإسبانية التي تحاول جاهدة طمس الحقائق بإعطاء تبريرات واهية لشركائها في الاتحاد الأوروبي من أجل التستــــر على هذه الفضيحة وتأليب الرأي العام الأوروبي ضد المغرب بادعائها أن الدافع وراء استقبال رئيس عصابة الانفصاليين هو عمل إنساني، ناسية أن الأمر يتعلق بمجرم حرب دخل إلى الأراضي الإسبانية بهوية وبجواز سفر مزورين في خرق سافر للقوانين والأعراف الدولية. بل أكثر من ذلك، فهذا المجرم مطلوب قضائيا من طرف العدالة الإسبانية نفسها. كما يحاول المتورطون في هذه الفضيحة إيجاد مخرج لتجنيب إدانة ابراهيم غالي من طرف القضاء الإسباني أو الاكتفاء بمحاكمته محاكمة صورية، وذلك للتقليل من هول الكارثة وإرضاء في آن واحد كل من المغرب والجزائر.

خامسا، الكشف عن حربائية الاتحاد الأوروبي وبعض أعضائه الذين انحازوا بشكل غريب إلى إسبانيا، حجتهم في ذلك عبور مجموعة من المراهقين الحدود الوهمية لسبتة المحتلة. ويتجلى من ذلك سياسة الكيل بمكيالين؛ إذ إنهم بدلا من أن يسألوا حكام إسبانيا عن القيام بعمل يعاقب عليه القانون مثل التزوير وانتحال الشخصية، صبوا جام انتقاداتهم على المغرب، مشددين على أن الحدود الأوروبية خط أحمر، ناسين أن إسبانيا ما زالت تفرض سيطرتها على مجموعة من الأراضي المغربية. وهذا السلوك يدل على غطرسة الدول الأوروبية وأن ما تدعيه من مبادئ إنسانية وديمقراطية ما هي إلا واجهة مزيفة تنمق بها صورتها أمام الأخرين.

(...)

*أستاذ باحث بألمانيا