تحليل

النخب السياسية وتنزيل مخرجات تقرير النموذج التنموي الجديد

عبد الرحمن الصديقي*

بعد انتظار طويل، تم الثلاثاء 25 ماي الجاري، الافراج عن مخرجات وتوصيات “وطموحات” النموذج التنموي الجديد الذي دعا إليه صاحب الجلالة في خطاب العرش لسنة 2019، والذي أحدثت من أجله لجنة خاصة، أريد لها أن تكون ممثلة للتنوع الثقافي والقطاعي والاجتماعي والترابي للمملكة.

بغض النظر عن أسباب التأخير، يظل تاريخ خروج التقرير، كاملا مفصلا بملحقاته ومراجعه، في هذه الأيام بالذات، التي تعيش مرحلة التسخينات الانتخابية الوطنية والجهوية والجماعية (J-106)، رمزيا ويحمل في طياته أكثر من إشارة ورمز من صاحب الجلالة إلى الفاعلين السياسيين بالبلد، وسأشرح ذلك بعد تقديم قراءة مبسطة للتقرير في حد ذاته.

التقرير النهائي الذي تم تقديمه لصاحب الجلالة من طرف رئيس اللجنة الخاصة، هو أبعد ما يكون عن وصفة جاهزة للتنمية، إنه هو “طموح وطني ورغبة في التغيير”، يعمل على تشخيص الوضع الحالي، يستفيد من تجارب الماضي، يتموقع في عالم متحول، يحدد المرجعيات، يستشرف الخيارات الاستراتيجية التي من شأنها تحقيق الطموح، يحدد الإكراهات بهدف تجاوزها أو الحد من تداعياتها، يرصد الإمكانيات الواجبة لتحقيق الطموح (ماديا وبشريا وقانونيا)-حتى لا يظل حلما-في مقاربة مشاريعية، يقترح آليات التفعيل والنجاح في إطار الكفاءة والتمكين، …إلخ.

طموح مغرب الغد عبر عنه جلالته في أكثر من خطاب وأكثر من فعل. مغرب ينمو في إطار الاستدامة ويجعل الإنسان في مركز الاهتمام. لأن التنمية المستدامة هي سيرورة وليست محطة. وهي التقاء وتقاطع لكل السياسات والأفعال. وواقع الحال هو نتاج تراكمات وليس فقط فعل منعزل في الزمان والمكان.

يكفي النظر إلى المشروع الطموح للتغطية الاجتماعية الذي سبق الإعلان عنه في هذا التقرير، رغم كونه يندرج في صلب الطموح الذي تحدث عنه. ويكفي كذلك النظر إلى دور القيادة التي أبان عنها صاحب الجلالة خلال معالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والصحية للجائحة (لوجستيك، تموين، تمويل، تلقيح) لمعرفة وإدراك مدلول ما أقول.

النموذج التنموي السابق أهل “الحجر” من خلال تمكين البلد من بنيات تحتية في مستوى طموح وتحديات الواقع الدولي والوطني وقتئذ. وعمل كذلك على إدماج البشر في ركب النمو من خلال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي حققت إلى حد كبير أهداف الألفية. وكانت هناك عمليات قيصرية في كثير من الأحيان بهدف ملاءمة البنيات المعلوماتية والقوانين مع واقع الحال الجديد. غير أنه (النموذج التنموي السابق) لم يستطع تأهيل البشر والرقي به بشكل يضمن الاستدامة: التأمين الاجتماعي، التعليم، الصحة، الشغل، العمل الاجتماعي، العدالة والسلم الاجتماعي، …

صحيح أن طموح النموذج التنموي الجديد لا يقف عند الإنسان-المواطن المغربي وإن كان يجعل منه الغاية الأساسية من النمو الاقتصادي (وليس فقط الوسيلة)، بل يتعداه إلى الاقتصاد والبيئة كذلك.

فرهانات المستقبل الاقتصادية، بالنسبة للوطن-المغربي، رهانات ذكية تستغل الفرص المتاحة جهويا ودوليا، وتتنبأ بالخطر، فتستعد له لاحتوائه أو لتفاديه. نمو الاقتصاد ورقيه هو وسيلة وغاية في حد ذاته، لذا وجب تحرير المبادرات وتشجيعها وإزالة العراقيل الموروثة التي تحد من نجاعتها. ألم تصل بريطانيا بفضل “الخيار الثالث” (La 3ème voies) إلى ما تريده؟ وكذلك فعلت تركيا من خلال تسخير الإمكانيات، كل الإمكانيات-السياسية والدبلوماسية والثقافية والسياحية والمالية-للمقاولة لكي تنمو وتزدهر وتعمل على إعادة توزيع الثروة بطريقة مباشرة (العمل) أو غير مباشرة (الضرائب) وتحقيق مبتغى التنمية المستدامة كما حددتها هيأة الأمم المتحدة.

ألم يقل الاقتصاديون إن أحسن الأوقات للاستثمار هو زمن الأزمة؟ كوفيد-19 مكن الدولة، بفضل دور القيادة المتبصرة لصاحب الجلالة، من تغيير العديد من الخيارات وتسريع الاستثمار في مجموعة من القطاعات التي سيكون لها دور الحسم في المستقبل: الرقمنة، الفلاحة المستدامة، الصناعات الدقيقة، …

الدولة عبر امتداداتها الترابية والقطاعية مطالبة وفق النموذج التنموي الجديد بأن تهيئ الظروف الموضوعية المثلى للفاعلين الاقتصاديين (بنيات تحتية، كفاءات، قوانين، …) دون أن تحل مكانهم، لما يقتضي ذلك من تغيير في العقليات وتجاوز الموروثات والقطع مع الريع بكل تجلياته (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية). بتعبير آخر وأقرب إلى الفهم، الدولة تبني الملعب وتحدد قوانين اللعب وتلعب دور الحكم وتترك اللاعبين يتبارون حسب طموحهم ومؤهلاتهم.

بطبيعة الحال، فإن مصاحبة مجموع هذه التغيرات التي تنتظر المجتمع والدولة والاقتصاد والإدارة المغربية، تتطلب كفاءات (compétences) وإرادات (volontés) على كل المستويات الوطنية والجهوية والمحلية، أو بتعبير التقرير “قيادة قادرة على خلق ظروف التملك الجماعي من طرف كافة القوى الحية لهذا النموذج وضمان تتبع تنفيذه”.

الآن فقط يمكن أن نفهم رمزية نشر مخرجات التقرير في هذا الوقت بالذات. المطلوب اليوم وقبل كل شيء من الأحزاب السياسية، التي ستدفع بنخبها للاستحقاقات المختلفة في شتنبر المقبل، أن تعي دقة المرحلة وثقل الحمولة.

إذا كان التقرير هو أقرب إلى فلسفة ومرجعية مغرب الغد، فسيتوجب على الأحزاب أن تضع مشاريعها (وليس فقط متمنياتها) لتنزيل وتحقيق ما أراده صاحب الجلالة للمواطن المغربي وللوطن المغربي. على الحكومة، التي سيتم تشكيلها بعد الاستحقاقات، أن ترسم لنا الطريقة والوسائل والجدولة الزمنية لتحقيق المبتغى. وعلى هذه الحكومة أولا وقبل كل شيء أن تنخرط في هذه الرؤية وأن تفهمها وأن تكون موافقة عليها ولا تشكل لمرجعيتها الايديولوجية أي إحراج. إذن، على الأحزاب أن تركز حملاتها الانتخابية المقبلة عن رؤيتها لبرمجة المشاريع قطاعيا وترابيا لتحقيق “مشروع مغرب 2035”.

ما قيل على المستوى الوطني يقال أيضا على المستوى الجهوي، وكذلك المحلي. المرشح الحزبي يجب عليه أولا أن يكون كفؤا وكذلك ذكيا. أن يكون كفؤا ليستوعب ويفهم تموقع جماعته أو جهته في الرقعة، وأن يفهم مخرجات تقرير النموذج التنموي. وأن يكون ذكيا ليعمل “كقيادة محلية أو جهوية” على تصور مخططات ومشاريع تنموية تستفيد من تجارب الماضي وتستغل فرص الحاضر والمستقبل وتدفع بترابها في ركب التنمية.

الواضح أيضا أن استحقاقات شتنبر المقبل لا يجب أن نقدم عليها بنفس عقلية “بورصة الانتخابات” التي تتحكم إلى يوم نشر التقرير في تزكية الوكلاء، لأن التقرير كان واضحا بخصوص توفر القيادات المتبصرة التي ستعمل على تنفيذ المخرجات على مستوى كل الجوانب اللامركزية واللامتمركزة.

*أستاذ بكلية الحقوق بطنجة