فن وإعلام

محمد الحبشي... ممثل عملاق... حلاق درب الفقراء

جمال هنية

محمد الحبشي من مواليد الحي الشعبي درب السلطان (بوشنتوف) بالدار البيضاء سنة 1939 ، ترجع أصوله الى أولاد حريز ، أبوه كان فلاحا يمتلك بضعة أراضي بنواحي مدينة برشيد . تابع دراسته الابتدائية بالمدرسة المحمدية والثانوية بمعهد الأزهر بمسقط رأسه ، لكن سرعان ما جدبه فن التشخيص فتوقف مبكرا عن متابعة الدراسة . التحق سنة 1958 بالمركز المغربي للأبحاث المسرحية بالرباط ، وهو المعهد الوحيد آنذاك المتخصص في تكوين الممثلين تحت وصاية وزارة الشبيبة والرياضة ، وقد تلقى فيه دروسا نظرية وعملية أكاديمية لمدة ثلاث سنوات على يد أساتذة كبار كأندري فوازان وعبد الصمد الكنفاوي وشارل نوك وأحمد الطيب لعلج  والطاهر واعزيز وعبد الله شقرون وغيرهم ، الى جانب زملائه مصطفى منير وعبد الرحيم اسحاق وعزيز موهوب وعبد الله العمراني ومليكة العماري وعبد السلام العمراني وفاطمة الركراكي وزكي الهواري وزهور المعمري وفاطمة بنمزيان وآخرين ... الذين أصبحوا فيما بعد من كبار ممثلي المسرح والسينما والتلفزيون بالمغرب .

في هذا المعهد أظهر محمد الحبشي أنه ممثل موهوب من خلال التداريب على أشهر نصوص المسرح الكلاسيكي من توقيع موليير وشكسبير وغيرهما والمشاركة أثناء الدراسة وبعدها في مسرحيات حققت نجاحا كبيرا داخل المغرب وخارجه .

لقد كانت معاناة الحبشي كبيرة ، أولا من الشروط الصعبة والمجحفة التي كان يمارس فيها عشقه للتشخيص المسرحي والسينمائي والتلفزيوني ، وثانيا من معارضة والده لامتهانه فن التشخيص ، وما أن تحسنت شروط عيشه نسبيا بفضل ما خلفه له والده من أراضي بمنطقة النواصر بعد وفاته حتى انسحب في صمت من الميدان الفني تاركا الجمل بما حمل ومفضلا التفرغ للفلاحة ، ولم تنفع معه الكثير من محاولات المخرجين المقدرين لقيمته الكبرى كممثل ليشارك في أعمالهم باستثناء محاولة الممثلة الكبيرة ثريا جبران التي أقنعته بمشقة الأنفس ليشارك معها في سيتكوم " لاباس والو باس " من اخراج حسن غنجة لفائدة قناة دوزيم ، الى جانب  ثلة من الممثلين الآخرين كمليكة العماري وعبد الوهاب الدكالي وبشرى أهريش وغيرهم . لقد أوقف فيلموغرافيته بارادته مباشرة بعد مشاركته سنة 1984 في الفيلمين السينمائيين المغربي " بامو " لادريس المريني و الفرنسي " الحارس الشخصي "  لفرانسوا لوتوريي ، وبهذا التوقيف فقدت السينما المغربية والأجنبية ممثلا قل نظيره .         

انطلقت تجربة محمد الحبشي في التشخيص المسرحي منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي ، في اطار الفرق المسرحية الهاوية بدرب السلطان ، قبل التحاقه بالمركز المغربي للأبحاث المسرحية بالرباط بعد اجتيازه لمباراة نظمتها وزارة الشبيبة والرياضة. أما أول وقوف له أمام كاميرا السينما فكان سنة 1959 الى جانب زميله الممثل عبد الرحيم اسحاق في الفيلم القصير " بوخو النجار " من اخراج أب السينما المغربية محمد عصفور.

بعد تخرجه من معهد الرباط سنة 1961 شارك الحبشي مع فرقة البدوي في بعض مسرحياتها قبل أن يلتحق بفرقة المعمورة الذائعة الصيت ، ويتألق في العديد من مسرحياتها الناجحة ، الا أن عمر هذه الفرقة الوطنية لم يكن طويلا اذ سرعان ما تشتت أعضاؤها بعد عقد من العمل الدؤوب ، فاستقدمه رائد المسرح المغربي الطيب الصديقي الى فرقته بالمسرح البلدي للدار البيضاء حيث شخص أدوارا مختلفة في جل مسرحياته .

 ويمكن اعتبار الدور الصغير الذي قام به الحبشي كممثل محترف في فيلم " لورانس العرب " (1962) ، الذي صوره المخرج الأنجليزي ديفيد لين جزئيا بالجنوب المغربي بمشاركة ثلة من الممثلين المغاربة كحسن الصقلي والطيب الصديقي وعبد القادر البدوي والبشير سكيرج وغيرهم الى جانب الممثلين الكبار بيتر أوتول وأنطوني كوين وعمر الشريف بمثابة أول دور حقيقي له في السينما العالمية .

يذكر أن الريبيرتوار الفني لمحمد الحبشي ، المتوفى بالدار البيضاء يوم 21 نونبر 2013 بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان ، زاخر بالمسرحيات والملاحم الوطنية وبعض الأعمال التلفزيونية المغربية والعربية وبالعشرات من دبلجات الأفلام الهندية والفرنسية والأمريكية وغيرها (مع الرائد ابراهيم السايح في استوديوهات عين الشق بالدار البيضاء) وباثنى عشر (12) فيلما سينمائيا فقط ، ويكفي أن نشير الى بعض عناوين فيلموغرافيته السينمائية لندرك قيمته الفنية والبصمة التي بصم بها حضوره كممثل عملاق في أفلام أصبحت تشكل علامات بارزة في تاريخنا السينمائي ، فمن من متتبعي الابداع السينمائي المغربي لا يذكر أفلاما من قبيل " ليالي أندلسية " من اخراج القيدوم العربي بناني سنة 1963 ، الذي شخص فيه محمد  الحبشي دورا متميزا الى جانب عبد الله العمراني وعبد السلام العمراني وآخرين ؟ ومن منا يمكنه بسهولة نسيان فيلم  " شمس الضباع " من اخراج التونسي المتمكن رضا الباهي سنة 1974 ، والمصور بالمغرب بمشاركة ممثلين مغاربة كصلاح الدين بنموسى والعربي الدغمي  وأحمد العماري وغيرهم الى جانب ممثلين تونسيين والممثل المصري القدير محمود مرسي ،  ومن منا لا يتذكر أفلامه الأخرى " رماد الزريبة " سنة 1976 ، وهو عمل جماعي شارك في انجازه مصطفى وعبد الكريم الدرقاوي وعبد القادر لقطع وسعد الشرايبي ومحمد الركاب وآخرين ، و" عرس دم " من اخراج سهيل بنبركة سنة 1977 ، و " السراب " من اخراج المبدع الرقيق أحمد البوعناني سنة 1979 ، و " تاغونجة " من اخراج عبدو عشوبة سنة 1980 ، و" 44 أو أسطورة الليل " من اخراج مومن السميحي سنة 1981 ، و " حلاق درب الفقراء " من اخراج محمد الركاب سنة 1982 و " بامو " من اخراج ادريس المريني سنة 1984 .

لم يكن محمد الحبشي ممثلا عاديا بل كان من طينة الممثلين الموهوبين الذين نادرا ما يجود الزمان بمثلهم ، فأعماله تشهد على تفرده.