رأي

أحمد المديني: العيطة الحمداوية... لكل اسم ذاكرة.. وللذاكرة أسماء

نحن الذين وُلدنا في تلك الخمسينيات البعيدة رضعنا مع حليب أمهاتنا نبرات أصواتهنّ وهنّ يناغيننا بالكلمات العِذاب، ذقناها من حلمات الأثداء، تعبث بها أصابعنا الرخوة كالعجين، ونعضّ نَغَنّ ونبكي، بينما أصواتُهُنّ تُمطر غزيرَ الدّلع، وشفاهُهُنّ سَخِيَّ القُبل، واصابعُهُنّ تصعَد تهبِط فينا دغدغة. أمهاتُنا سعيدات أو شقيات، منعمات أو متواضعات، كنّ موسيقى وأغنيات. يتحركن جيئة وذهابا كأنما أوتارٌ يعزف عليها الهواء، وفق إيقاع دقيق ومشي رشيق، حاملات عبء النهار على أكتافهن، غاديات من الصبح بشهوة للحياة لاهبة كالحريق؛ حتى إذا شبّ الليل التففن على أشواقهن متعبات حالمات أو أُخِذن عُنوةً، وإما، على غِرّةٍ، متعةً كالرحيق.

الأمهات الأخوات الخالات العمّات، وقد شَقين(هكذا يسمين شغلَ البيت) من الصبح إلى ما بعد الزوال، إمّا يجتمعن في مِراح الدار أو فوق السطوح، وإمّا في حوش بين الخيام، هنّ يعرفن سلفا ًما يُردن، لسن في حاجة إلى الكلام، غمزةُ عين تكفي لتحقيق المرام، قد حان وقت العصر وآن الأوان، كي يدارين شظف العيش وإما الحزن برقيق الأنغام، لا الربابةُ ولا الكمنجات، بَنْديرٌ واحدٌ يكفي وتعريجة والأفضل اثنتان، والتّعريجة آلة من فخار بين أنامل ترقص كالبخار، هي حركة باهرة تذهب وتأتي لجسد يلتوي حول خصر النهار، هكذا بعض هوى الحريزيات.

هنّ سيداتُ الشاوية، بالفطرة متعلمات، ولا يقال في حقهن أمّيات، وإلا كيف يقبِسن شمس النهار ليزرعنها في الليل صهيلا وصبوات، كذلك هنّ الستّاتيات والسّتّاشيات ولمزابيات، ولا تسل عن الفاسيات، زلاغ عاماً بعد عاما يَنحَلُ من لوعة هواهن، والقبابُ والسواري تكتسي ببياضهن، هنّ الفسيفساء الأندلسيات، وكلّ ما جمعت أرضُنا الزاهية من بهاء الخلق سرن يمشين مزهرات كحقول الربيع بالقرنفل وبلّعمان والعكار الفاسي يشق الدرب بهن مشتعلات.

تحتاج إلى أن تفتح كتاب تاريخ الحرث والنسل، الخيل والليل، وكيف تُزرع الحبة ويدفق السّيل، والمحراث يشق تربته، والمنجل تحصد قبضته، والسنابل تغطي هامته، تراب التيرس من ثرى برشيد على اليسار هو لونُه ومنه رائحتُه، وعلى اليمين أرضُ الساحل إلى البحر رحلتُه وقِبلتُه. كان مأخوذاً بالصوت، يمشي وهو يتقدمه، ذاهلاً في خطوته كلما عطش العطش يشربُه، ياه، متفجّراً من شِغاف الشّعاب، كالتلاوة من الكتاب، أرنو إليه إذ أسمعُه، واحرّ قلباه من أين منبعُه؟

الحق انتظرناه/ ها طويلا. بعد الأعوام العِجاف، على الرقاب ألف سيف، وكم سؤال إلى متى نحن هكذا نحرث أرضنا ويأكل الغولُ خيرنا، ولا نهتدي سبيلا إلى الخلاص، لا نعرف كيف. اصطففنا على رموش العيون، قلنا إمّا الخصب غداً يأتي صوتُها بَليلاً ويسقينا وإلا فهي المَنون. وإذ كدنا نأكل لحمنا ونيأس ابتذلنا الأوغاد والسنون، شقّ صوتها الفضاء، لا نعلم من أرض نبع أم قَطْر السماء،على رِسلكم خاطبنا/خاطبتنا: أنا العَيْطة الحمداوية، أنا النداء طرّاً والرجاء!

لذلك نحتاج دائما أن نفطّن بأن لكل اسم ذاكرة، وللذاكرة أسماء، وليس كلُّ من تَسمّى جدير بالعيش، ناهيك بالبقاء، وهذه الأهزوجة التي رحلت أمس نادمت الحياة حتى غاض منها الفناء، لم يفهم أن ثمة موتى يطوفون بلحدهم شبه أحياء، والناس البدور تفتقد في الليلة الظلماء. لذا أراني أتهيّب أن أسميها من شدة ما في قلبي من رجفة ويعيدني الصوت إلى نصف قرن خلا، نعم بلِيَ الجسدُ الغضّ كان ولكن النار لمّا تزل شعاّلة بالفؤاد، أحسبها توقيراً للحظة التشييع تختفي عن الأنظار، يزُفُّون وَهَنَ العمر إلى الثرى، بينما الصوت باقٍ متأهب بباب المقبرة.

هنّ أمي خالاتي جاراتنا والغواني حضنن الصوت أسمعهن يهزجن بكل وضوح، وأتخيّلهن يرونها تقودهم بضرب البندير وهنّ يصدحن من حنجرتها كما لم تتوقف أبدا منذ الاستقلال:» هي هي جاية تصفار وتخضار/ هي هي حاطّة السالف عالليزار[الإزار] هي هي جايبة مشموم دالنوار» كان هذا حقيقيا في سهول الشاوية لا صورةً مستعارة، تذهب النسوة والعواتق بأيدٍ عارية ويرجعن بقلائد وباقات يتضاحكن مرحات مزهرات بالفرح البسيط وهنّ يمضغن بواكير السنبلة، والحمداوية تبوح بأشواقهن علَناً:» نموت أنا ما يموت حبيبي/ العار يا العار/ الجبال اللي يدكوك يريبو/ مركب عالي ولا فراق حبيبي». كأني بعيني أعود أراها تنزل من الكرويلة بعد أن شقت طريق التيرس داخل تراب (أولاد امحمد) حيث دارة قاضي برشيد الحاج صالح فتسبقها مِروحَةُ السانية إلى الدور انفُرِشت تحتها البُسُط وعُدّة الشاي كأسُه يدور والحاجة بيد تضرب البندير وبالأخرى ترسل الصوت ستلتوي إثرَه خصور، وكم من إيوان هزت وقصور.

ولدت الحمداوية بفكرة عن الناس والبلاد، وتعرف بالفطرة أنها ينبغي أن تُطرب، فتُطرب، قبل الاستقلال وبعده، من أجل وعي الشعب أكاد أقول هتفت وهي ليست زعيمة:» « اخّوتنا يا لِسلام/ هزوا بنا لعلام/ زيدوا بنا القدام/ لا خيابت دابا تزيان». غنت في الحفلات والسهرات والأعراس، وعاشت دائما رافعة الرأس وإن مستها من الدنيا أضرار. هذه سيدة تمنح الحياة ولا هي كانت شيخة بالمعنى المبتذل اليوم، الشيوخ والشيخات مثلّن خصب الأرض وزهو الإنسان ورهانات الكبار في زمن الإقطاع نعم وحولهن يقيم الفرسان الدنيا ونار حرب توقد. في الدار البيضاء الستينيات كان بوشعيب البيضاوي وبوشعيب زنيكة و(الماريشال) قيبو إذا عزفت جوقتُهم مالت الدار البيضاء من زناتة إلى سيدي عبد الرحمان، غربها وشرقها، ومن شاطئيْ عين الدياب وببسيكولا شمالا إلى واد لعبيد جنوبا، ويكفي أن ترنّ تعريجة بوشعيب البيضاوي مع صوته الناعم لترقص مدينة الطبقة العاملة وتطرب، حتى وهي في أوج الغضب.

بينهم وبعدهم حافظت الحمداوية على حيِّز صنعته على مر السنين يكفيها، كانت تعلم أنها مع الأساطين، من ذكرتُ، والحمونية وفاطنة بنت الحسين، ولكل غُنّته وأسلوبُه وجمهورُه، ولكن الهمّ واحدٌ تقريبا، قول ما في جوف الشعب، في الحشا من حب وحزن ورغاب، وحكايا من زمن غاب، ومعانٍ تهز الجبال أحيانا وتُقطع لها الرقاب، الجميع عاش يَعُبّ من معين العيطة، وصاحباتها يخطن بأهداب السهر ووجع القلب الليلَ بالنهار، يتحمّلن شُبهة العار ووقفة الأعتاب ينتهين غالبا ذُبالات وتقفر منهن الديار؛ كلّهن وحتى وهنّ على مشارف القيامة يبقين حارسات للبحار، شرفة العين ينقلن الصدى، أوجاعنا يحملنها نحو أبعد مدى، مبارك ربيع عنده محيطات في رواياته ولا يرتاح إلا وهو يتساقى فن الوداد مع البحر كلّ أصيل، كذلك أفهم رغبة الميلودي شغموم، صحيحا وعلى فراش المرض الآن سيُعافى إن شاء الله، قرة عينه أن يملك مترا يطل على البحر، أيها الرأسماليون تنازلوا لشغموم عن متر واحد يرده للمغرب بأجمل الروايات. وأنت يا الحاجة لن أشيّعك بالبكاء، سأشدو بصوتك المغناج: « دبا يجي يا لحبيبة دبا يجي»..