رأي

عبد اللطيف مجدوب: رصيدك من الصبر..!

أعظم ميزة ميز بها الله الإنسان

لو بحثنا تركيبة الإنسان السيكولوجية منها و البيولوجية، ستغوص بنا إلى متاهات وأغوار جد معقدة داخل هذا المخلوق الذي ما زال العلم؛ وبكل فتوحاته التي انتهى إليها حتى الآن؛ عاجزا عن فك الشفرات و منظومات التصاميم التي تحتويه خلاياه وأنسجته وجيناته Gens ؛ في علاقاتها بسلوكه ومواقفه تجاه محيطه المباشر أو البيئي العام Environment.

هذه القدرة (الصبر) ، نشأت معه منذ الخليقة، وصاحبته في بيئات طبيعية؛ تنوعت من الجبلية و الصحراوية إلى البحرية وذات مناخات اختلفت في حدتها ما بين الصقيعية والقطبية والحارة أو الجافة والرطبة؛ عمّقت فيه المقدرة على الصبر والجلَد والتحمل والأناة، حتى إن هذه الميزة اتخذتها عديد من المجتمعات "معيارا" لقياس مدى الثبات والصمود لدى الإنسان؛ في مواجهته للتحديات والأخطار المحدقة ، وقد شاع استخدامه في المعارك والحروب كأن يتم قياس مدى الصبر على الجوع والعطش أو اقتحام الحواجز وتحمل الأذى والألم.

ومن خلال هذه السياقات في الكشف عن مقدرة الصبر لدى الكائن البشري؛ نستخلص بأن الصبر Patience هو "القدرة على تحمل الظروف الصعبة، وينضوي تحت هذا المعنى الصبر على المثابرة في مواجهة التأخير والتسامح مع الإستفزاز دون الرد بازدراء وغضب، أو القدرة على التحمل عند التعرض لضغوط ، لا سيما عند مواجهة صعوبات على المدى الطويل، أو القدرة على الانتظار أو الاستمرار في العمل رغم الصعوبات أو المعاناة، دون الحاجة إلى التعبير عن الشكوى أو الانزعاج.. "

صبر المغاربة وصبر أيوب

يشاع ؛ كما تؤكده بعض الدراسات الأمبريقية أن المغاربة" من أكثر شعوب الأرض صبرا وتحملا للمشاق والمحن والمعاناة "، وقد انتبه لهذه" الميزة" رجال حرب على مر العصور فوظفوها في استقدام عينة من المغاربة ؛ لا ينفد لهم صبر أمام الأهوال و الشدائد والحروب خاصة، فأدرجوهم ضمن قوائم الأشاوس المغاورين ورجال الوغى التي لا تلين لهم قناة؛ مهما كانت الظروف والملابسات،(...) و يحتفظ لنا التاريخ بصور لامعة لمعارك وملاحم ؛ أبلى فيها المغاربة البلاء الحسن، سواء في فتح الأندلس أو الزلاقة، علاوة على معارك من التاريخ الحديث، كما في حروب الهند الصينية ودول الحلفاء في مواجهتها للنازية.

وقد وردت في القرآن الكريم إشارات غنية لفعل "صبر" تكرر 73 مرة في 69 آية ؛ منها { يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }؛[ سورة آل عمران : 200 ]

"صبر أيوب"، ومن خلال شدة المحن التي توالت على النبي أيوب عليه السلام، أن تحول صبره إلى مضرب مثل في القدرة على تحمل الأذى والكدمات.. حيث فقد ماله وأولاده وهدّه المرض.. ومع كل هذه الشدائد ظل صامدا في تعلقه بربه.

الصبر من سجايا المغاربة

من السجايا التي اشتهر بها المغاربة ؛ عبر حقب تاريخية ؛ الصبر وكظم المعاناة؛ حتى إن التحايا المتبادلة بينهم تشي بهذه "الخلة" ، كأن تسأله (كيف أنت؟) فيرد عليك بشكل مباشر (الحمد لله) ولا يأبى إلا أن يضمر معاناته مهما بلغت حدتها ، سواء في علاقاته بالأسرة أو المجتمع ؛ يتكيف مع ظروف عيشه حتى ولو حاول لهيب الأسعار أن يعصف به، إذا اختفت مادة استهلاكية أو نفدت من الأسواق بحث عنها" بالعرق الناشف" ليجدها ولا يروقه الاستغناء عنها، ليست له قدرة على الصبر أمام إيجاد حاجياته. كما يلاحظ أن "الصبر المشترك" أو بالأحرى القضايا التي تمس جماهير المغاربة قاطبة، من قبيل غلاء المعيشة واضمحلال الحقوق و اختفاء الحريات أو تعفن الإدارة والحي السكني.. كثيراً ما يغظ عنها الطرف ويواجهها بالصبر والاصطبار دون إبداء أية مقاومة أو اعتراض، بعد أن يكون مخزونه من الصبر قد نفد ، فيعتاد على لسعاتها، وقد يكون مردها إلى سلسلة الضربات الموجعة التي تلجأ إليها الحكومة؛ من خلال توالي الزيادات في الأسعار وانسداد آفاق الشغل واستفحال أرقام البطالة، وهي؛ في عمومها ؛ إجراءات لترويض المواطنين على المزيد من التحلي بالصبر والأناة، وفي آن ترسيخ الأمر الواقع.

لكن مخزون الصبر الفردي لدى المغاربة جد ضعيف؛ فيتضايق من اصطفافه في الطابور أمام مرتفق عمومي، كما يشعر بالامتعاض أمام علامة "قف" التي تشعره بالانتظار و التريث، ومنهم من لا يكترث بوجود جدران مشتركة بين الجيران، حتى ولو دعته الظروف لأن يطرق جداره طوال الليل، أما أن يصبر ويتحين التوقيت المناسب فليس واردا إطلاقا في دائرة اهتماماته، وهو ما يعكس عينة التربية التي تلقاها.

الانفجار حينما يتجاوز الصبر حدوده

عبارة "للصبر حدود" مستقاة من القواميس الشعبية التي تحفل بها الأنثروبولوجيا ، وهي بالكاد مشتركة بين العديد من الثقافات الأنجلوساكسونية منها والفرنكفونية والعربية. وفيما يلي عينة من الأقوال حول فضيلة الصبر :

* الصبر مر وثمرته حلوة ؛

* "الصبر ليس هو القدرة على الانتظار ولكنه القدرة على الحفاظ على موقف جيد أثناء الانتظار" ؛

* "شيئان يحددانك : صبرك عندما لا يكون لديك شيء، وسلوكك عندما يكون لديك كل شيء" ؛

* قال لي والدي "اعمل بجد وتحلى بالصبر"، كانت أفضل نصيحة تلقيتها على الإطلاق؛

* "الصبر مفتاح القناعة" ؛

* "الصبر عنصر أساسي في النجاح" ؛

* "الصبر مفتاح الفرج"

لكن أحيانا يصادف أن تتراكم نسب الصبر حتى يصل إلى مستوى من الضغط ، لتنجم عنه أشكال من الانفجارات أو نزوع الشخص إلى اقتراف أعمال شائنة ليعوض عن صبره، مثل الارتماء في حمأة المخدرات أو التعاطي للمسكرات ، كما نجد أن لدى بعض الكتاب والروائيين العالميين نزعة مقاومة ؛ تظهر في قصصهم ورواياتهم؛ تتجسد في شخوص بنزعات سلوكية مختلفة إجرامية و درامية، تجسد غياب القدرة على الصبر و الانتظار.. أو حينما يصل الصبر بصاحبه إلى مستوى قياسي فيفضي به  إلى النيران و الاحتراق أخيراً ، على أن للصبر علاقة وطيدة بثقافة الشخص وسعة أفقه، فكلما ضاقت وضعفت صار سلوك صاحبها أقرب إلى الهمجية منه إلى البشرية.