تحليل

الشِّعْرُ في يومِه العَالميّ.. ماذا بقي لنا من الشِّعر والشّعراء..؟!

محمّد محمّد خطّابي*

تحتفل اليونسكو – كما هو الشأن كلّ عام – باليوم العالمي للشّعر. اُعتمد ذلك في الدورة الثلاثين لليونسكو – المنعقدة عام 1999 بباريس ، وأصبح  يوم 21 مارس يوماً عالمياً للشّعر. وكانت الغاية من هذا اليوم هو تعزيز القراءة، والكتابة، ونشر، وتدريس الشعر في جميع أنحاء العالم. خلال دورة اليونسكو إيّاها التي أعلن فيها عن هذا اليوم أمام العالم، سُجّل بأن الهدف منه كذلك هو “تجديد الاعتراف وإعطاء زخم للحركات الشعرية الوطنية والإقليمية والدولية” ..فماذا يمكننا قوله فى هذا اليوم عن هذا ” المخلوق الذي أصبح يدبّ بيننا على قدميْن ” كما ذهب ريتشاردز وكولاردج فى كتابهما “فى معنىَ المعنىَ”….؟!

تساؤلات متوالية، ومتواترة ما فتئت، وما إنفكّت تُطرح، وتنهال، وتنثال، وتتوالى بين الفينة والأخرى بين العديد من الكتّاب، والشّعراء، والنقّاد، والمثقفين، بل والقرّاء أنفسهم حول الشّعر، وهمومه، ومعاناته، وهواجسه، ومشاغله، وآمَالِه، وَآلاَمِه، وأهله، وذويه، ودوره، وماهيته، وكنهه، وتعريفه وتقييمه، وعن بقائه، أو زواله، وموته، وإنقراضه، ومدى منفعته وجدواه، وقد سبق أن تساءل قبل ذلك مفكّرون، وأدباء، وشعراء، ونقّاد، ومثقفون، وفلاسفة عن الشعر، ومآله، ومصيره ومستقبله، وهل هو ما زال صالحاً، وذا جدوى فى عصرنا المصنّع الحديث..؟.

وكان شاعر أمريكا اللاّتينية الكبير الرّاحل المكسيكي أوكتافيو باث (نوبل فى الآداب عام )1990، يصرّ في مختلف كتاباته، بعد تجربته الكبيرة، ورحلته الطويلة مع الشعر أنّ هذا الفنّ الإنساني الرّاقي من فنون القول باقٍ ما بقي الإنسانُ على وجه الأرض، فى حين كان غيرُه من المفكرين، والفلاسفة قبله منذ ما ينيف على نصف قرنٍ منهم على سبيل المثال وليس الحصر الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيجل يرى عكسَ ذلك، حيث تنبّأ بموتِ الشِّعر ونهايته فى عصرنا..!…فهل أصاب..؟!..هل تحقّقت نبوءته..؟! في السّطور التالية محاولة للإجابة عن هذا التكهّن الخطير في يوم الشعر العالمي الذي يصادف 21 مارس (آذار) الجاري من كلّ عام  .

ويشكو الأديب الصّديق عبد القادر الحلوي غيابَ الشِّعر الجيِّد، ونُدرة الإبداع الرّفيع على أيّامنا، فيقول: لم يعد الشِّعرُ يؤثّث بساتينَ الثقافة والفنّ ! بعد أن أبتليت الحدائق الأدبية بالتصحّر، وتسوّست أغراسُها، فغابت الفراشات، والعصافير مع غياب نبتة الشّعر، تحجّرت قلوب البشر فانطوت الأحاسيس على نفسها، وأصابت الكآبةُ المشاعرَ في مقتل، خفّ الأنين، وانتحب العويل، وغابَ عن اللّحن الرّنين! لم يعد الشّعر ينبت تحت السّاقية، ولم يعد يرقص مع اللّحن والقافية، هي الحياة، فعلاً، كئيبة أم تراها ماهية ؟ حتى لغة وثقافة الحيزبون والدردبيس والعلطبيس إندثرت عنوةً كي لا نبتسم ولا نضحك، ومع ذلك ما فتئنا نقرأ أحياناً بعضَ الشّعر الذي يسمّونه حرّاً ، لكنّه جافّ المأكل، حارّ زؤوم، يَستعصي على الهضم وعلى الفهم معاً، فعوض أن نسمّيه شعراً حرّاً، وهو ليس حرّاً بل مجرور بسلاسل وأصفاد، كان حريّاً بنا أن نسمّيه الشّعر العبد حتى ينعتق ! إنّ أجملَ الشّعر في عذوبة ألحانه، ورقّة ألفاظه،وصدق مقاصده، وسلاسة عباراته، وبساطة معانيه، وبعده عن التكلّف والتعقيد، يقول الشّاعر الأندلسي إبن اللبّانة: هو الشِّعرُ من دُرِّ طيبٍ نحتُه/ وقد تُنحَتُ الأشعارُ من حَجَرٍ صَلد . وهوالقائل كذلك: من كان ينفق من سواد كتابه/فأنا الذي من نور قلبي أنفق!.

التبليغ والإبلاغ

بعيداً عن هذه التساؤلات، والشّكاوى، والتذمّرات، والإرهاصات، والتكهّنات، فإنّ الشّعر الجيّد فى الواقع هو الحياة بكلّ ما فيها من معانٍ وأسرار وغموض ومفارقات، والحديث عن الشّعر هو الحديث عن الكون الهائل المحيّر.. عن عذابات النفس المكلومة التائهة في متاهات الحياة، ومرابض الكينونة. فالشّعر هَوَسٌ إنساني، وشجون لا يماثله سوى شجون الشّاعر إزاء العالم وأهواله، والدّنيا وأحداثها. الشّعر نقمةُ الوجود لأنّه كاشفُه وهو قيدُ الحياة، وديمومةٌ متجدّدةٌ وخلقٌ دائمٌ لها. الشّعر أكثر الفنون هموماً، وأخطرها بحثاً، وأعمقها قضية، وأبعدها مراماً، وأعلاها قدسية.ً إنّه قلب الدراما كما يسمّيه ريتشاردزوهو الرّوح الحيويّة الحائرة والهائمة فى غياهب الكون واللاّمحدود.

إذا كان هنري بِرْجسُونْ يَنعْي على اللّغة قصورَها الشّديد في التبليغ والإبلاغ، فإنّ الشّعر الحقّ قد فتح البابَ على مصراعيْه أمام المبدعين لتفادي هذا العجز، وبلوغ أرقى ضروب العطاء بتفجير هذه اللغة وتطويعها وإعطائها نفساً إبداعياً جديداً، ذلك أنّ الشّعر هو اللغة فى أرقى مظاهرها، والشّعر الذي أعني هنا هو الشّعر بكل ما ينطوي تحت هذه الكلمة من مدلول، وحيرة، وغموض . الشّعرالذي يهزّنا عند سماعه، ويسمو بنا عند قراءته، والذي لا يرقى إليه سوى القادر على إقتحام شعابه، وعوالمه، هو الذي ينفذ إلى أعماقنا، ويلامس شغافَ قلوبنا، وقلوبَ المحرومين والمحظوظين على حدّ سواء.

والشّعر ليس قصّة تُرْوَى، ولا منطقاً يُدرّس، ولا فلسفة تُناقش، ولا قولاً يجري على ألسنة قادة كبار العقول، وهو ليس علماً محدّداً، ولا غايةً فى ذاتها، إنّه كلّ أولئك جميعاً وما وراءها وما فوقها وما تحتها، إنه علم ما وراء العلم وهو تجسيد للكون وما يكتنفه من غموض، وقلق وإغتراب، الشّعر تحدّ لهذا الكون، وإمتداد له ولما بعده، وهو ليس أغنية تَسري فى أنغامها آهات العشّاق، ولا أنشودة تُفصح عن شكوى المتيّمين، الشّعر ضَرْبٌ من مناوشة الكون، ومناجاة الرّوح، ومناغصة الوجود ومناغاته، وهذه أبرز خاصّياته وأخطرها.

والقصيدة الجيّدة تجسيد أبديّ لصورة الوجود، تتعدّد فيها الدّلالات، وتتشعّب الرموز، وتختلط وتتداخل فى تناوش بديع، هي التي تكاد لا تقول أيّ شيء وهي في الوقت ذاته تقول كلَّ شيء، والشّعراء أناس سيزيفيّون، دائمو الحيرة، والقلق، والعذاب، والسُّؤْل عن كنْه الحياة، وأسرارها، وتناقضاتها، وغموضها وألغازها .والقصيدة باقية بقاء الدّهر، لأنها أبدا حيّة وحبلى بمختلف العطاءات، وهي ليست وقفاً على حاضر أو ماض أو آت، بل إنّها تطوي المسافات السّرمدية طيّاً، لتضرب في عمق حياتنا الأولى وينابيعها البعيدة لتعايش كلّ عصر وزمان، هي التي أحالت أساطيرَ الأقدمين إلى عِلْم المحدثين، إنّها تعبير أخناتوني عن توحيد الجزء في الكلّ والعكس. إنّها مخلوق يدبّ على قدمين، وليس للشّاعر عليها هيمنة ولا سطوة، لأنها ليست ذاته، ولا حياته، ولا تجاربه، ولا معاناته، ولا أحاسيسه وحده بل إنها ذوات وحيوات وتجارب ومعاناة وأحاسيس الوجود نفسه، وما الشّاعر سوى جزء حيّ نابض من هذا الوجود.

قال الشاعر والناقد الفرنسي ستيفان مَالاَرْمِيه : إنّ أرقى أنواع الشّعر هو الذي لا يرقى إليه الفهمُ سوى بضربٍ باهظٍ من الذّكاء والصّبر والمعاناة والمكابدة ، والقصيدة الجيّدة هي حوارٌ مع الكون، ومناوشة دائمة له، وإستكناه لما وراءه. وتلك عملية صعبة ومركّبة تنطوى على مجازفة خطيرة لأنّها بداية إحتراق وكيّ، في تناوش وتشاكس وديمومة متجدّدة. الشّاعر دائمُ المقاومة والتحدّي، شديدُ المراس، لا يُؤخذ جانبُه بسهولة ويسر. والشّعر ليس قصراً على التذوّق الفنّي، أوالإحساس المرهف، أو التسامر أو الإنطواء أو الإنتماء. بل هو مواجهة صريحة للواقع، وإستكناه لخباياه وإستجلاء لغوامضه، ومعانقة للآمال والآلام . الشّكوى عند الشّاعر حبّات متناثرة، وذرّات مبعثرة كأنّها كثبان رملية منهمرة على وقع هديرِ أمواجٍ عاليةٍ عاتية . الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبه، بل هو لمح تكفي إشارته، وهو لا يمكن أن يُقال له شعراً إذا لم يحزّكَ عند سماعه، وهو فكر يبعث على التأمّل وإعمال النظر، بضربٍ من المعاناة، والنغوص والتوتّر، حيناً، وبالخيال المجنّح، والإسترخاء حينا آخر. والغربة عند الشّاعر تنويعات مختلفة حزينة مكلومة، والقصيد نبعٌ رقراق يتفتّق من أعماق النفس المحبّة العاشقة.

الشّعر الجيّد مرآة الرّوح

الناقد المكسيكي  ساندرُو كُوهين يرى  أنّ الشّاعر هو مرآة الرّوح في النفس البشرية. يعمل على تجلية وتنقية ما علق بها من صدأ وبلى وأدران. ويجعلها تشعر بالحنين إلى الحياة الأولى الحالمة الخالية من أيّ أثر للتيّارات المادية التي طغت وطبعت هذا العصر. كان الشّعر فيما مضى يُسمع ويُقرأ من طرف الرّجال والنساء، عندما بدأ الإنسان ينظمه بغضّ النظر عن الغناء أوالتقاليد، إنّه منذ بضع عقود كان الناس يقدّرون مختلف الفنون الإبداعية وفي مقدّمتها الشّعر، ويواظبون على قراءتها . وإذا كانت إبداعات القرنين الماضيين شعراً ونثراً لم تحقّق مبيعاتها ما حققه بعض الكتّاب والشعراء اليوم. ذلك أنّ الذي كان يُشترَى بضمّ الياء منذ مئة سنة من كتب كانت تُقرأ، وعلى العكس من ذلك أصبح التباهي اليوم ليس بالقراءة ؛ بل بإقتناء العديد من الكتب حتى وإن لم تقرأ . ويرى بعض الشّعراء أنّ الموسيقى، والرّاديو، والسينما، والتلفزيون، والإنترنيت ليس هناك من ريب أنها قد تسبّبت في تجميد وتشويه وغلظة الحواس. ولا يمكن لهذه الوسائل برمّتها أن تنفلت أو تتنكّر لهذه القيم الجمالية. لا يمكننا أن ننكر مع ذلك أنّ هناك موسيقي ممتازة، و أفلاماً تستحق أن تُعتبر أعمالاً فنيّة رائعة. هناك كذلك إذاعات جيّدة. كما أنّ هناك تلفازاً متقدّماً متطوّرا بإبداعاته وطاقاته الفنيّة الهائلة فضلاً عن تقنياته العالية.

قرّاء الشِّعر وسامعُوه ومتتبّعُوه

لا ريب أنّ هناك  غيرَ قليلٍ من العوامل التي أدّت إلى نقص في قراءة الشّعر، وجعلت من الصّعوبة بمكان وضع تفسير واضح لهذه الظاهرة. إلاّ أنّ هناك وجهة نظر الشّاعر الذي ليس له قرّاء كثيرون. إنّنا ما زلنا نستمع إلى أقوال مثل: إنّ العالم قد أصبح فظيعاً لدرجة أنّه لم يعد هناك مكان أو وقت للشّعر ! أو: إنّها بكاملها، طريقة مشيتها، حديثها، بل حتى طريقة جلوسها إنّما هي قصيدة حقيقية! و إنّ التهديد بالحروب، والجوع، والأمراض الفتّاكة يعمل على بعث الكآبة في أقلّ الشّعراء حساسية وشعوراً . إلاّ أنّ ذلك ليس عذراً لهجر الشعر، لأنّ الشعر ليس فنّاً زخرفيّاً، ولا أداة من أدوات الزّينة والتنميق. فالشّعركان يُفهم عموماً في الغرب بأنّه حافل بالأشباح والأرواح والرومانسية والأحلام. ومردّ هذه المفاهيم إلى الفلاسفة الإغريق، إلاّ أنّه عندما ظهر أمثال والت ويتمان، وشارل بودلير، واستيفان مالارميه، وأرتور رامبو، فإنّ هذه المفاهيم بدأت تهتزّ، وطفق معها الشّعر السّحري الحالم يفقد رونقه وبهاءه. إنّ كلمات مثل الأيديولوجية، الإلتزام، النقد، التأمّل، إعمال النظر، والإستاطيقا قد أصبح لها من الإنسجام والتوافق والجمال الشّيء الكثير. كما أنّ هناك كوكبة من الشّعراء ما فتئوا ينشرون أعمالهم، ويتركون آثاراً بليغة في قرّائهم. بل إنّ بعضهم قد خلّف مدارس وإتّجاهات شعرية خاصّة بهم، وهم بذلك إنّما ينثرون بذوراً لضآلة القرّاء. إنّ هجرهم للإستاطيقا بحثاً عن أنغام وموسيقى وقيم جديدة، إنما كانوا بذلك يُقْصُونَ القرّاء عن ناصية الشّعر.

هل نعيش َأزْمَة إبْدَاع أمْ أزْمَة تَلقّي؟

يعتقد بعض القرّاء وعشّاق الشّعر أنّهم عندما يذهبون إلى الإستماع إلى الشّعر أنّه سيدور حول مناظر رائعة، وكبار رجال التاريخ أو قصص الحبّ الحالمة، أو بحثاً عن أساليب الإبداع المبتكرة، يحدث هذا عندما لا يكون هناك ما ينبغي البحث عنه حقاً. هذا النّوع من القرّاء سرعان ما يبدأون في الشعور بالملل فيبحثون لهم عن وسائل أخرى للتسلية والتسرّي. إلاّ أنّ هذا الحكم مُجحف، ذلك أنّ بعض الشّعراء الغربيين يعتبرون بعض القرّاء أغبياء، ويعزون سبب فشلهم إلى الآخرين. أيّ إلى هؤلاء اللاّمرئييّين الأقلّ إجتهاداً وهم القرّاء أنفسهم. ويغيب عنهم أنّه إذا كان الشّعر لا يُقرأ الآن كثيراً، فقد لا يكون السّبب في القرّاء بل في نوعية الشّعر الذي أصبح يُكتب اليوم ومدى جودته. فأين لهؤلاء الشّعراء ما كان بين إستيفان مالارميه، وجون أسبيري، و فيسينسيُو كارداريلي، ورُوبين بونيفاس، و ت. س إليوت، وأوكتافيو باث؟. إنّها مسألة ضآلة الشّعر الجيّد. الواقع أنّ ثمة تناقضاً غريباً ومحيّراً، ففي الوقت الذي كان فيه شعراء مجدّون ومجيدون، قد نجد العكس بالنسبة للقرّاء، والعكس صحيح أيضاً، لقد أصبح هناك تساؤل دائم حول ماهية الفنّ ودوره يتوازى مع البحوث العلمية والفلسفية في عصرنا. إنّه ليس في مقدورنا الإستمرار في الكتابة طبقاً لمعطيات لم تعد لها صلة بالهموم الإنسانية والقلق الذي أصبح يعتري إنسان العصرفى مختلف أنحاء المعمور .

المُبْدِعون الحَقِيقيّون

إلاّ أنّ هناك من يرى من النقّاد  الثقات أنّ المبدعين الحقيقيين لا يحيدون أبداً عن رغباتهم، وهواجسهم، وهَوسهم الإبداعي شعراً كان أم نثراً أم تشكيلاً. إنّهم كلّما إزدادوا علماً بعوالمهم المادّية كلّما تعرّفوا أكثر على مدى ضآلتهم وصغرهم في الكون. وعظمة وجلال كلّ ما لا يعرفون عنه شيئاً، ولايجرُؤون على التفكير فيه، أو الخوض في غماره. وعليه فإنّه من العبث أن نجد الحلول الجاهزة للشّعر الذي أصبح بمنأى عن الدّور الذي كان يضطلع به في العالم الإغريقي، واللاّتيني، والعربيّ، عندما كانت مختلف العلوم تُكتب شعراً. ناهيك عن أغراض الشّعر الأخرى. فقد عمل الشّعر على إمتصاص جميع تلك المواضيع التي قد لا تجد لها مكاناً في الشّعر اليوم. كما أنّ الشّعر فقد إحدى خاصّياته وهي الشمول وأصبح أكثر تجزيئاً. فالكوميديا الإلهية للإيطالي لدانتي أليجيري المستوحاة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي كانت تسعى إلى إقامة نظرة كونية منطقية شاملة. كان دانتي يريد أن يقول كلّ شيء في ملحمته. وكان الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس يُعرب عن إرتياحه وإنشراحه عندما يعثر على بيتٍ واحدٍ من الشّعر الجيّد الجدير بالقراءة في عملٍ مّا . كانت باكورة أعماله الإبداعية تحمل عنوان ” الألف”، تعبيراً عن إعجابه بالتراث العربي، وهيامه بلغة الضّاد. ومثلما كان يُعاب على الشاعر أبي تمّام أنّه كان يقول كلاماً لا يُفهم، حيث كان الناس من القرّاء يقولون له: لماذا تقول ما لا يُفهم..؟ فكان يجيب : ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟!، فإنّ بعض الشّعر اليوم لم يعد يُفهم. ثمّ إنّه في نظر البّعض قد أصبح شبيهاً بقطعة فنيّة زخرفية، وكان الشّعر الحقيقي في ما مضى  فنّاً أثيراً  عند الناس يُفهَم، ويُقرَأ، ويُستساغ بسهولة ويُسر.

ونذكّر القارئ الكريم في الختام ليس بما قاله الفيلسوف الألماني هيجل عن الشّعر، بل بما قاله الشّاعر أوكتافيو باث في مستهلّ هذا المقال في دفاعه عن هذا الفنّ الراقي البديع في حياتنا، إذ يؤكّد في هذا السيّاق : أنْ لا خوفَ على الشّعر من الزّوال، إنّه سيظلّ موجوداً ما دام للإنسان وجود على هذه الأرض!!.

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأميركية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا.