قضايا

الجزائر: حراك القطيعة والتغيير الجذري

عبد الصمد بنشريف

يمثل الحراك  الشعبي في الجزائر، الذي اندلعت شرارته، في 22 فبراير 2019 منعطفا ً سياسياً واجتماعياًبكل المقاييس. فقد كسر حاجز الخوف والصمت، وأثبت أن مكونات الشعب قادرة على اجتراح ملحمة تاريخية جديدة، ورفع التحدّي في وجه ذهنية سلطوية شمولية نشأت على منطق الحزب والرأي والحل الواحد. كانت هناك احتجاجات قطاعية في السنوات الأخيرة في الجزائر، وكل مسؤول حكومي كان يسوق الارتياح، ويدّعي أن قطاعه على أحسن ما يرام. ولكن تلك الاحتجاجات لم تأخذ بعداً سياسياً. وكاد الجميع أن يفقد الأمل، بسبب اليأس والإحباط بين الشباب بشكل خاص، لا سيما عندما راهن شبابٌ كثيرون على خيار الهجرة غير النظامية وقوارب الموت، غير مكترثين بالمآسي، لأن الهم والحلم الوحيد الذي كان يدغدغ مخيلتهم هو الوصول إلى أوروبا. ولذلك فضّل هؤلاء ركوب الأهوال والمخاطر، وأمواج المتوسط القاتلة، على أن يظلوا مغتربين في وطنٍ لم ينصفهم، ولم يمنحهم فرص الترقي وأسباب الاستقرار.

مع انطلاق الحراك الشعبي، تغيرت المعادلة، وتحقق الانتصار على التردّد والتوجس، وتغيرت اللغة، وكذا الخطاب والمشاعر والسيكولوجيات. ومعلومٌ أن الشباب حاول، قبل هذا الحراك غير المسبوق، الانتفاض في بدايات الربيع العربي وفي السنوات التي تلته، لكن الصحافة الموالية، كما الأحزاب  التي تدور في فلك النظام، كانت تشهر ورقة المذابح وحمامات الدم في العشرية السوداء، فكلما كانت هناك مبادرات للاحتجاج على الأوضاع والأزمات، وحالة الاحتباس السياسي والجمود الديمقراطي، كانت تنبري معظم المنابر الإعلامية للتذكير بالمجازر القديمة، واستحضار إنجازات الرئيس المقعد المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، المتمثلة في إرساء دعائم الوفاق المدني والمصالحة الوطنية. كما أن اختلال موازين القوى السياسية، بسبب تدمير النظام للمعارضة الفاعلة والمؤثرة، وميله إلى صناعة أحزابٍ على مقاسه، أنتج مؤسسةً تشريعيةً هشّة، وغير ذات مصداقية، كون أغلبيتها كانت تتشكل من أحزاب السلطة التي لا تتقن سوى التصديق والتصفيق لكل ما يسوقه النظام.

 في قراءة و تفكيك رسائل ودينامية الحراك، الشعبي الجزائري  نستخلص أن هناك مسألةٌ ذات  دلالة نفسيةٌ ترتبط بالكبرياء المتجذّرة في شخصية المواطن الجزائري. ويعد هذا العنصر جوهرياً في ثبات نشطاء الحراك، وصمودهم في وجه عروض النظام وإغراءاته، وذهابهم إلى الحد الأقصى في مطالبهم، وخصوصاً أن  هذا الحراك يعتبر أن رموز النظام اغتصبت السلطة، وانتهكت الحقوق السياسية. ولا يمكن منح الشرعية لهذه المجزرة الديمقراطية، وإن عمد النظام وأركانه والأحزاب التي كانت تشكل شرعيته ، في محاولة لتحويل الأنظار، إلى الاحتفال بما وصفوه بالعرس الديمقراطي الذي أبهر العالم، والذي هو صناعةٌ شعبيةٌ خالصة، هندسها الشباب. ومن خلال هذا الحراك، المتنوع والمتعدّد، يبدو جلياً أن الشباب الجزائري يدافعون عن مشروعٍ جديد، بعد أن عانوا طويلاً من التهميش، ومن تراكمات نظام فاسد حطّم آمالهم، على حد تعبيرهم، علماً أن ذهنهم يخلو من مشاهد القتل والعنف والجمر والدم، ما يفيد تحرّرهم من كوابح ومثبطات عديدة.

وترجع سلمية المسيرات، وتحضرها، بالأساس، إلى طبيعة تركيبة الحراك، فهو مؤلف من أجيال ثورة الاستقلال وجيل العشرية السوداء والجيل الحالي. وهناك عامل الاستفادة من التداعيات السلبية للربيع العربي، خصوصاً في سورية وليبيا واليمن. ويفسر هذا الحرص على السلمية، المنسوب العالي من الوعي الشعبي. كما تعكس الشعارات التي رفعها الحراك، في عشرات المسيرات طفرة  نوعية ومفصلية، فقد أصدر الحكم المبرم على نظامٍ بات مشلولاً، ودولة عميقة، نهشها فيروس المصالح والامتيازات والبيروقراطية. وحسم الأمر، معتبراً أن عجلة التاريخ لن تعود إلى الوراء، لأن الحراك الذي عمّ كل التراب الجزائري سعى منذ الوهلة الأولى إلى إحداث القطيعة مع النظام الحالي، والتغيير الجذري للممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل، وبما يضمن لمختلف شرائح المجتمع حياةً حرّة كريمة، وخصوصاً أن الجزائر تعتبر أكبر دولة أفريقية، من حيث المساحة، بساكنة تزيد عن 42 مليون نسمة، يشكل الشباب، في هرمها، أكثر من 18 مليون نسمة. وتبلغ نسبة البطالة في صفوف هذه الفئة الاجتماعية أكثر من 26%، وهي تقريباً النسبة نفسها في صفوف الخريجين الجامعيين. ومعلوم أن نسبة التعليم العالي في الجزائر تتجاوز 47%، وهو ما يعني وجود نخبةٍ متعلمة  

صعبة على الانقياد والاستقطاب.

وتتوفر الجزائر على ثرواتٍ هائلة من النفط والغاز الطبيعي. ولكن، على الرغم من كل هذه الخيرات والمقدّرات، غرقت في أزمة مالية واقتصادية واجتماعية حادّة، منذ انهيار أسعار النفط في عام 2014. وقد جرّب الجزائريون مناورات النظام ووعوده في أربع ولايات للرئيس السابق بوتفليقة. ويظهر أن النظام،الحالي بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون وبمختلف مستوياته ومكوّناته، لا يمكن أن يترك اللعبة السياسية والانتخابية خارج منطق التحكم وصناعةالخرائط الموالية، فهو سعى ويسعى بكل الطرق، وبكل الوسائل، إلى إحداث اختراقات في صفوف الحراك، قصد إنهاكه وتفكيك وحدته، ونسف تلاحمه. ويستعمل من أجل ذلك لغة التخوين.  وهذا ما تروج له المؤسسة العسكرية بالدرجة الأولى، حيث اعتبرت من خلال مجلة الجيش، في عددها لشهر مارس الجاري، أن "الإجراءات والقرارات التاريخية الشجاعة التي اتخذها مؤخرا رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، لم تعجب كالعادة محترفي الإفك والتضليل دولاكانوا، عصابات، أو أفرادا".في إشارة إلى الذين يتشبثون بقيام الدولة المدنية، النقيض الموضوعي للدولة العسكرية. 

 وأشارت  نفس المجلة التي تعتبر لسان حال السيستم ،إلى أن هذه الأطراف "تشبه الخفافيش التي تهوى الظلام والسواد، وتستثمر حتى في الحراك والوباء، سلاحها التفرقة والتعفين ومشروعها فكّ روابط اللحمة بين الشعب وجيشه وإعادة النظر في كل ثوابت الأمة وفي مقدمتها النهج النوفمبري الأصيل"

مؤكد أن المبادرات والسيناريوهات التي طرحتها المؤسسة العسكرية عبر واجهة الرئاسة لتجاوز الأزمة السياسية،والاجتماعية والاقتصادية، باءت بالفشل، خصوصاً في ظل جنوح أركان النظام إلى الرغبة في الالتفاف على مطالب الحراك. فمنذ اللحظات الأولى، ظهر أن السيستيم يراهن على عامل الوقت، قصد امتصاص غضب الشارع، ومحاولة التأثير على معنوياته للحيلولة دون رفع سقف المطالب.بما فيها رحيل كل وجوه ورموز الطغمة الحاكمة .ومؤكد أيضآ أن ما قدمه الرئيس تبون من عروض ووعود مغلقة بكثير من الوطنية الشعبوية، وتقديم  المغرب كعدو لدود وكقوة استعمارية، لتصريف الأزمة الداخلية الحادة، لم  يلمس فيها الحراك الشعبي ما يقنعه بالعدول عن التظاهر. والاستمرار في ديناميته ومع  مرور الوقت، أخذت دائرة البدائل في الانحباس، ما رسّخ الاعتقاد بأن النظام بات أمام أزمة سياسية خانقة، وخصوصاً أن الحل الدستوري والانتخابي والمؤسساتي بدا عاجزاً عن احتواء الأزمة.