قضايا

قبــور "تحت المـاء"..

عزيز لعويسي

إذا كانت الأمطار الأخيرة قد عرت عن سوءة البنيات التحتية بعدد من المدن وعلى رأسها الدار البيضاء الكبرى، وكشفت بالملموس ما تعيشه المدن من أزمات واختلالات مرتبطة في شموليتها بســوء تدبير الجماعات الحضرية والقروية على حد ســواء، فإن سلطة الأمطار تجاوزت “عالم الأحيـاء” وتعدت الأحياء والشوارع والطرقات والمدارات، لتمتد إلى “عالم الموتى” (المقابر) الذين لم يسلموا بدورهم من تداعيات الممارسات التدبيرية العابثة.

مجموعة من مقابر المسلمين عبر التراب الوطني عبثت بها الأمطار الكاسحة التي أصرت أن تكشف عنوة عن واقع حال هذه المقابر على مستوى البنيات وأساليب التدبير، كما حدث في مقبرة الغفران بالدار البيضاء التي فعلت فيها الأمطار فعلتها، تارة بإغراق القبور تحت الماء وتارة ثانية بغمرها بالأوحال وتارة ثالثة بتحطيمها وإتــلاف شواهدها بالمرة، وفي ظل هذا الواقع البئيس، لم تجد الكثير من الأسر من بديل، ســوى خرق تدابير الوقاية والاحتراز، والهرولة نحو المقبرة لتفقد قبــور موتاها وترميم ما يمكن ترميمه أو إصلاح ما يمكن إصلاحه، في غياب أية مبادرة تدخلية رسمية من شأنها معالجة تداعيات ما أحدثته الأمطار داخل المقبرة من مشاهد البؤس والهشاشة والتخريب.

ما حدث في الغفران وغيرها من المقابر، ليس فقط هو مناسبة لفتح ملف تدبير مقابر موتى المسلمين، بل هو فرصة لتقنين هذا القطاع وتخليصه من كل مشاهد الفوضى والعشوائية والتسيب والرذيلة والانحلال، والتفكير في بناء جيل جديد من المقابر تتحقق فيها شروط الأمن والسلامة والاطمئنان والجاذبية والضبط والنظام، احتراما لحرمة الموتى وانسجاما مع روحانية الأمكنة، وإذا كان لا مفر من المقارنة، فلا يمكن إلا أن نلامس البون الشاسع الموجود بين مقابر المسلمين التي باتت في شموليتها أمكنة مرادفة للعشوائية و”اللانظام” وقبلة للمتشردين والمنحلين والعابثين، مقارنة مع المقابر اليهودية والمسيحية التي يتعايش فيها “النظام” و”الاحترام” جنبا إلى جنب.

قد يقول قائل إن الأموات مجرد أموات والأولوية للأحياء، وهو طرح نواجهه بالتأكيد بأن المقابر ليست فقط أمكنة لدفن الموتى أو التخلص منهم، بل هي فضاءات روحانية تذكرنا بالعالم الآخر وتشعرنا بساعات الرحيل عن الحياة الدنيا، وحلقات إنسانية تبقي على الجسور الروحانية قائمة بين الأحياء وما افتقدوه من أحباء وأعزاء، وتحفظ أواصر المحبة والوفاء والالتزام بين من قضى نحبه وبين من ينتظـر، وهي قبل هذا وذاك جزء لا يتجزأ من الذاكرة الراحلة والتاريخ العابر، وأمكنة بهذه الحمولة الروحانية والإنسانية والاجتماعية والثقافية، تستحق ليس فقط “الاهتمام”، بل والمزيد من الحرص والاهتمام، لأن العناية بها، هي عناية بالإنسان الذي لا بد أن يتم تكريمه في “عالم الأحياء” كان، أو في “عالم الموتى”، وفي جميــع الحالات، فالمقابر وما يحدث داخلها من ممارسات، هي شواهد دالة على مستوى ثقافتنا ومدى رقينا واحترامنا نحن الأحياء… رحم الله كل الموتى وإنا لله وإنا إليه راجعون…