رأي

عبد الغني القاسمي: الخطاب السياسي وتوظيف الشعارات

لا يمكن تحديد المنطلق التاريخي لهذا الخطاب بحكم أن الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض و هو مجبول على الإهتمام بمن و ما حوله ، قد يكون راضيا و قد لا يكون ، قد يتبنى أفكارا فيدافع عنها و قد ينتقد ما يتعارض مع أفكاره و من ذلك يتشكل خطابه الذي ينصب بالأساس على الإهتمام بالشأن العام ، و بازدهار العلوم الإنسانية و بروز اتجاهات فكرية و سياسية عديدة في عصر النهضة صار للخطاب السياسي دور فيما  سمي بالايديولوجيا ، و هذا ما أطلق عليه من جانب آخر الزعيم الايطالي و المفكر الماركسي غرامشي في مستهل القرن العشرين عملية الانتقال إلى تضمين الخطاب السياسي دفاعا مركزا و منهجيا - حسب نظره -  على مبدأ  نبذ الطبقية و فك الارتباط بين البورجوازية المتحالفة مع رجال الدين و هو ما يعني به غرامشي نصرة ثورة العمال و الفلاحين باعتبارهم ضحايا الرأسمالية التي تضع السلطة في يد الطبقة الغنية على حساب الفقراء .

و من فرط افتتان عدد من المفكرين و الفرقاء السياسيين  في العالم  خلال القرن الماضي بالمذاهب الفكرية و السياسية التي التزموا بالنضال من أجلها في صفوف الأحزاب و التنظيمات على مختلف ألوانها ، ومن باب الحرص على إقناع مخاطبيهم بالانضباط الايديولوجي ، ظهرت ضرورة تركيز الخطاب على الشعارات التي تزرع الحماس و تنشر الوعي و تحشد القواعد حتى و لو كانت تلك الشعارات فضفاضة و تسبح في العموميات كما تأكد مع مرور الأيام  ، و خاصة بعد الحرب العالمية الثانية التي أفرزت تواجد معسكرين أحدهما رأسمالي ليبرالي و الآخر شيوعي اشتراكي ، و شهدت الساحة الدولية صراعا ضاريا بين المعسكرين ميزها شن حرب باردة لم تضع أوزارها إلا في مطلع التسعينات حيث انهزم المعسكر الشيوعي الاشتراكي و سقط سور برلين و انفرط حلف وارسو ليظل المعسكر الراسمالي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة هو القطب الأقوى في الموازين السياسية الدولية الراهنة .

و العالم العربي كغيره من العوالم الأخرى اقتسمه المعسكران بصورة مثيرة ، و على سبيل المثال فالجزائر سارت في ركاب المعسكر الشرقي و كان يطغى على خطاباتها الرسمية و الإعلامية منذ استقلالها سنة 1962 شعارات من قبيل أمريكا عدوة الشعوب و لا لهيمنة الامبريالية الأمريكية على العالم الثالث و النصر لليساريين و التقدميين ونعت الدول التي ظلت محسوبة على المعسكر الغربي كالمغرب بالرجعية و العميلة والعدوة لحركات التحرر الوطني في العالم ... الى آخر الاسطوانة التي كانت تتغنى بتوظيف شعارات فارغة من كل مضمون بناء و مدلول هادف ، و مما يؤسف له أن تبقى تلك العقلية المتجاوزة ساكنة في الأذهان و بلغ الأمر بجارتنا مثلا إلى الى افتعال نزاع معنا بخصوص وحدتنا الترابية و هو نزاع  موروث من سنوات الحرب الباردة في وقت أصبح فيه العالم يسير في سياق مختلف عما سبقه ، و الخطاب السياسي اليوم يجب أن يبتعد عن تلك الشعارات البائدة حتى تتوفر له المصداقية و يثق به المرء و يحترم صاحبه و لله في خلقه شؤون  .