قضايا

" حليمـة " الاحتقان التعليمي .. العودة إلى العادة القديمة

عزيز لعويـسي

من حسنات جائحة كورونا، أنها أخمدت جمرة الاحتقان التعليمي وخلصت شوارع العاصمة الرباط من حرارة النضال والاحتجاج طيلة أشهــر، في ظل فرض الحجر الصحي الشامل وما ارتبط به من تطبيق لحالة الطوارئ الصحية التي لازالت سارية المفعول منذ شهر مارس المنصرم، لينتهي الموسم الدراسي "الكوروني" في أجواء آمنة، بعد أن تجند نساء ورجال التعليم، لضمان الاستمرارية البيداغوجية، عقب التوقف الاضطراري للدراسة في إطار ما سنته السلطات العمومية من تدابير وقائية وإجراءات احترازية، على إثراللجوء إلى خيار تطبيق الحجر الصحي للتصدي إلى الفيروس المزعج والحد من انتشار العــدوى.

لكن يبدو أن "حليمة" الاحتقان التعليمي قد عادت إلى "عادتها القديمة" بعد أشهر من الهدنة الاضطرارية استسلاما لسلطة الوباء الكاسح والتزاما بما تم تنزيله  من قبل السلطات العمومية من قرارات وتدابير في إطار حالة الطــوارئ الصحية، في ظل بروز تعابير احتجاجية فئوية أعادت جمرة الاحتقان التعليمي إلى الواجهة في زمن الجائحة، وأعادت معها طقــوس النضال إلى شوارع العاصمة الرباط وما يرتبط بها من توتر واحتكاك وتوجس، واصطدام واحتجاج وكر وفـر بين الأساتذة المحتجين وعناصر القوات الأمنية المعنية بحفظ النظام العام، ونشير في هذا الصدد إلى احتجاجات الأساتذة من حاملي الشهادات العليا، وما بات يعـرف بالأساتذة المعتقلين في الزنزانة 10 من خريجي السلم التاسع، وما سطرته هيئـة الإدارة التربوية بصنفيها (الإسناد والمسك) من برنامج نضالي، وهي تسخينات احتجاجية ستــزداد معها جمرة الاحتقان توهجا، بشكل قد ينذر بشتاء تربوي ساخن اعتبــارا للبرنامج النضالي الذي سطره "الأساتذة أطر الأكاديميات"، والذي يرتقب أن تتخلله أشكال نضاليـة متعددة الزوايا طيلة شهر نونبر الجاري ومطلع شهر دجنبر القادم.

معارك نضالية آنية وأخرى مرتقبة، يعلو فيها صوت النضال والاحتجاج والمطالب والحقوق، على صوت الجائحة وما تفرضه من تدابير وقائية وإجراءات احترازية ذات صلة بحالة الطوارئ الصحية، وهي تسائل في شموليتها، واقـع حال "التعليم العمومي" ليس فقط على مستوى المناهج والبرامج وطرائق التدريس والتقويم التي تحتاج إلى "ثـورة إصلاحية حقيقية" تقطع مع مشاهد البؤس والتواضع والرتابة والتجاوز، بل أيضا على مستوى ما آلت إليه مهنـة "المدرس" من تراجعات مقلقة قياسا لمهن ووظائـف أخرى، بشكل أفقدها الرمزية والمكانة والاعتبار والتميز والإشــراق، والحصيلة "شغيلـة تعليمية" وضعها لم يعد يسـر الناظرين، قياسا لما يتخللها من مشكـلات ومطالب فئويـة متعددة المستويات، تقــوي الإحساس الفردي والجماعي بالإحباط واليأس وفقدان الثقة وانسـداد الأفق المهني والاجتماعي، في واقع تعليمي بات شيعا وفرقا نضالية، تنتصـر للذات أكثر من انتصارها للمصلحة العامة، وبقدر ما نؤمن بأحقيـة الاحتجاج والنضال المشروع والمسؤول، بقـدر ما ندين ما تشهده الساحة النضاليـة من تشـرذم وشتات وتفرقة وأنانيــة مفرطة (كل فئة تغني على ليلاها)، ونرى أن هذا النهج النضالي، يضعف من القدرات، ويقلل من فرص التوصل إلى حلول جذرية وشاملة للشغيلـة التعليمية، ما لم يتم التنازل عن الأنانيــة المفرطة، وتوحيد الطاقات والقدرات، من أجل "مخاطب قـوي"، قادر على المرافعة المسؤولة أمام الوزارة الوصية على القطاع والدفاع الرصين على "ملف مطلبي موحد ومشترك"، في إطار "نظام أساسي جديد" عصري وعادل ومحفز ومنصف، يعبر عن آمال وتطلعات وانتظارات الشغيلة التعليمية بكل فئاتها وانتماءاتها.

الحكومة وتحديدا وزارة التربية الوطنية، لابد أن تستحضر هذا الاحتقان المتنامي في زمن الجائحة، وأن تقدر تداعيات ذلك على المدرسة العمومية واستقرارها وعلى سيرورات العمليات التعليمية التعلمية وما يرتبط بها من إجراءات وعمليات، وأن تدرك تمام الإدراك، الآثار السلبية لموجات الاحتقان على الإصلاح الذي بشرت به "الرؤية الاستراتيجية للإصلاح" (2015-2030) والقانون المؤطر لها، واستيعاب ما للاحتجاجات الفئويـة المتصاعدة، سواء بالعاصمة أو على المستويات الجهوية والمحلية على النظـام العام، وهذه الاعتبارات تفرض الإيمان بفلسفة الحوار والتواصل كمنهجية لحل المشاكل المطلبية القائمة في إطار رؤيـة إصلاحية شمولية، تروم الارتقاء المهني والاجتماعي بأوضاع الشغيلة التعليمية باعتبارها محرك الإصلاح وأساسه الطبيعي الذي لابديل عنـه، وذلك بالتنازل عن سياسة التماطل أو التسوية أو التجاهل أو الإقصـاء، والإسهــام في خلق مناخ من الثقـة المتبادلة، يسمـح بالجلوس على طاولة الحــوار البناء، وهو حوار لا يمكن تصوره إلا في ظل نقابات قوية مسؤولــة تقطع بدورها مع واقع التشــرذم والتفرقة، وتوحد طاقاتها وتسخر إمكانياتها، لتكــون طرفا محاورا قويا قادرا على ممارسة فعل الدفاع والمرافعــة، بعيدا عن سطــور المصالح ومفردات الحسابات الخفية والمعلنـة.

ولا يسعنا في خاتمة هذا المـقال، إلا أن نوجه البوصلـة كاملة نحو "اللجنـة الخاصة بالنموذج التنمــوي" التي يرتقب أن تقــدم خلاصات عملها أمام أنظار جلالة الملك محمد السادس مطلــع السنة القادمة، وندعوها إلى حسن الاصغـاء إلى نبــض الشغيلة التعليميـة، وتقـدير حجم ما تتخبــط فيه من مشكـلات شائكـة، وما لذلك من آثـار وانعكاسات ليس فقط على رؤيـة الإصلاح، ولكن على "النموذج التنـموي الجديد" الذي لايمكن التعويــل عليــه، إلا في ظل تعليم عصـري آمن ومستقر وشغيلة تعليمية تتمتــع بشروط التحفيـز(أجور لائقـة، تعويضات محفزة، أفق سلسة للترقي المهني، حماية قانونية وإدارية، مواكبة نفسية واجتماعية ... إلخ)، بشكل يجعلها قـادرة على صناعة "الإنسان" /"المواطن" الذي يسهم في بنـاء الوطن ويكــون للدولة خير دعم وخيـر سنـد، في لحظات الرخاء والازدهــار كما في لحظات الأزمات والجوائح والحوادث الفجائيــة، بوطنيته الحقـة وانضباطه والتزامه وتضامنه وتماسكـه، فلا يمكن قطعا، البنـاء أو الإصلاح أو إدراك التنميـة الشاملة، إلا بالرهان على "التعليم" والارتقــاء بأوضاع من يبني الوطن ويصنـع الإنسان/ المواطـن (نساء ورجال التعليم)، عسـى أن يصل الصوت إلى صناع القرار السياسي والإداري، وعسى أن نستوعب أن "الإمبراطور كوفيد التاسع عشر" قد كشـف عنوة عن سوءة حقيقتنا المـرة، وكشـف لنا كم نحن جميعا في حاجة إلى ثقافــة "المواطنة" و"الالتزام" والمسؤولية" و"الانضباط" و"احترام سلطة القانـون"، وهي قيم لامحيدة عنها، لايمكن إدراكها إلا بتدريس فعال، ومدرس يتمتع بالاحترام والكرامة والاعتبار والتحفيز... على أمل أن ترحل "حليمة الاحتقان" بشكل لارجعة فيـه، وترحل معها كل الأسباب المقوية للإحسـاس بالبؤس والتواضع واليأس والإحباط وانسداد الأفـق ...

Laaouissiaziz1@gmail.com