تحليل

قراءة في الخطاب الملكي "عن بُعد"

عبد الرحمان شحشي

لأول مرة في التاريخ الدستوري المغربي يفتتح الملك الدورة التشريعية للبرلمان بخطاب ملكي "عن بُعد"، في غياب للطقوس والمراسم التي اعتدنا عليها، في قدوم الموكب الملكي من القصر العامر بالرباط في اتجاه المؤسسة التشريعية، وذلك بسبب التداعيات السلبية لجائحة كورونا. ويعد الخطاب الملكي في افتتاح دورة البرلمان خطابا توجيهيا ليس فقط لنواب الأمة ولكن للحكومة كذلك.

إن استهلال الخطاب الملكي لنواب الأمة بالآية الكريمة رقم 177 من سورة البقرة لم يكن من باب الصدفة ولكن من باب الانتقاء، حيث قال تعالى: "لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ..." (177)، وفي هذه الآية خطاب مباشر لنواب الأمة الذين يتحملون أمانة من انتخبوهم للدفاع عن الصالح العام وليس عن المصالح الخاصة، حيث تملص البعض من هذه الأمانة والمسؤولية وانغمسوا في حب جمع المال وآثروا تضخيم ثرواتهم والاغتناء من الريع السياسي بمناسبة وصولهم لقبة البرلمان، وبذلك يكونوا قد نقضوا العهد الذي عاهدوا الله وأولي الأمر والأمة عليه، وتنكروا لواجبهم الديني والأخلاقي والسياسي.

إن الخطاب الملكي كان خطابا تشخيصيا لواقع الأزمة التي يعيشها المغرب والتحديات والانعكاسات الصحية والاقتصادية والنفسية، التي وضعت نواب الأمة والحكومة معا على محك الجائحة التي كشفت مرة ثانية عن ضعف البرلمان في التقدم بحلول ناجعة للحد من مضاعفاتها السلبية، كما أظهر كوفيد 19 ارتباك قرارات الحكومة وتناقضاتها.

لهذا فالملك يوصي بضرورة التحلي باليقظة والحرص على سلامة المواطنين وتقوية الحماية الاجتماعية وتنشيط الاقتصاد حتى لا تتسبب الجائحة وإجراءات التصدي لها في إضعاف الجانب الاجتماعي من هضم لحقوق الطبقات الهشة والفقيرة باسم حالة الطوارئ الصحية، وما يمكن ان يترتب عن ذلك من تداعيات وقلاقل اجتماعية من تدمر وتمرد على السلطة وقراراتها.

إن قراءة ما وراء الخطاب توضح لنا الطابع الاستباقي لهذا "الخطاب التحوطي" من ممكنات الانعكاسات السلبية للجائحة على النظام ككل. وهو ما تلوح به بعض الجهات التي تحاول الركوب على الموجة واستغلال الجائحة كفزاعة ضد الدولة.

ولسد الذرائع قال الجالس على العرش: "لذا، أطلقنا خطة طموحة لإنعاش الاقتصاد، ومشروعا كبيرا لتعميم التغطية الاجتماعية، وأكدنا على اعتماد مبادئ الحكامة، وإصلاح مؤسسات القطاع العام".

وزاد قائلا: "ومن شأن هذه المشاريع الكبرى أن تساهم في تجاوز آثار الأزمة، وتوفير الشروط الملائمة لتنزيل النموذج التنموي، الذي نتطلع إليه. وإننا نضع خطة إنعاش الاقتصاد، في مقدمة أسبقيات هذه المرحلة".

إن جدلية السياسي والاقتصادي كانت حاضرة في الخطاب الملكي نظرا للتأثيرات المتبادلة بين المتغيرين سلبا وايجابا، لهذا فإن أعلى سلطة في البلاد واعية بالتداعيات الخطيرة للجائحة على الجانب الاقتصادي والاستقرار السياسي والاجتماعي، وبناء علية فإن إنعاش الاقتصاد لا يمكن أن يتم إلا في إطار "تعاقد وطني". فحزمة الضمانات التي قدمها الملك باسمه للنهوض بالاقتصاد من خلال إنشاء "صندوق محمد السادس للاستثمار" توازيها في المقابل حزمة الضمانات للنهوض بالمجال الاجتماعي -فالملك هو الضامن الأول والأخير للسلم الاجتماعي وللاستقرار السياسي- ولهذا دعا العاهل لتعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة عبر مشروع وطني كبير وغير مسبوق، يرتكز على أربعة مكونات أساسية:

أولا: تعميم التغطية الصحية الاجبارية، في أجل أقصاه نهاية 2022.

ثانيا: تعميم التعويضات العائلية.

ثالثا: توسيع الانخراط في نظام التقاعد. رابعا: تعميم الاستفادة من التأمين على التعويض على فقدان الشغل.

ويبقى نجاح المغرب في مواجهة هذه الازمة رهين إجماع وطني حول الثوابت والأهداف الاستراتيجية للأمة. وليختم الملك خطابه بتفاؤل المؤمنين مصداقا لقوله تعالى: "ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون". صدق الله العظيم.

*دكتوراه في علم السياسة والقانون الدستوري / جامعة الحسن الأول - سطات