تحليل

انفراط عقد الأغلبية الحكومية

سليمة فرجي

انتهت الولاية التشريعية ما بعد دستور 2011، وستنتهي الولاية الحالية في غضون السنة المقبلة، ونعاين حاليا هرع الأحزاب وتسارع اللاهثين وراء الحقائب والمناصب إلى الحديث عن التحالفات مهما كانت هجينة، وتوحي باختلاف بين في الايديولوجيات والرؤى المستقبلية، الشيء الذي لا يخدم في شيء المصلحة العليا للوطن، والأمثلة على ذلك كثيرة!

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن مشروع القانون الجنائي لم يحظ بعد بمصادقة البرلمان، علما أنه بعد التأجيلات المتعددة على عهد حكومة بنكيران، ثم حكومة العثماني، وحلول أجل وضع التعديلات خلال شهر شتنبر 2020 وتأجيلها مرة أخرى، لا يبدو أن المصادقة على المشروع المثير للجدل، الذي لم يعد متلائما مع المستجدات ومع دستور 2011، ستخرجه إلى حيز الوجود، إما نظرا لغياب إرادة الحسم، أو بسبب التشرذم الايديولوجي والتحالفات الهجينة، وإما بسبب تصفية الحسابات السياسية وانفراط عقد الأغلبية الحكومية، في ضرب صارخ لانتظارات المواطنين، والخطابات الملكية السامية، وفوران المستجدات المتعلقة بالتحولات الإقليمية والتداعيات ومخلفات الوباء التي فرضت على العالم كله تحيين بعض النصوص وسن أخرى أملتها ظروف وأحداث ومستجدات.

أكثر من ذلك، هناك مقتضيات ايجابية أتى بها المشروع وهي محل انتظار المواطنين، كالعقوبات البديلة التي يحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لا تتجاوز عقوبتها سنتين حبسا، وهي:

‎1. العمل لأجل المنفعة العامة

‎2. الغرامة اليومية

‎3. تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية.

علمًا أنه استثنى بعض الجنح من الاستفادة من العقوبات البديلة، وهي الاختلاس، الرشوة، الاتجار بالمخدرات، والاستغلال الجنسي للقاصرين.

وإذا كان تجريم الإجهاض أثار الكثير من الجدل؛ إذ تم رفع التجريم عن حالات الإجهاض إذا نتج الحمل عن اغتصاب أو زنا المحارم، أو كانت الحامل مختلة عقليا، أو كان الجنين مصابا بأمراض جينية أو تشوهات خلقية خطيرة، وتسبب في خلق نقط الخلاف المؤدية إلى تأجيل وضع التعديلات والمصادقة على المشروع رقم 10.16، فإن تجريم الإثراء غير المشروع بدوره خلق نقط خلاف بين مكونات الحكومة كشفت عن عدم الانسجام الحكومي والتحالف الهجين الذي أبان غير ما مرة عن عجزه في تمرير بعض القوانين وإبقائها في رفوف اللجان، مثال ذلك المادة 16 من مدونة الأسرة المتعلقة بالبينة الشرعية في ثبوت الزوجية .

ولعل تجريم الإثراء غير المشروع الذي كان من أسباب التأجيل المتتالي، يعتبر مكملا للتشريع المتعلق بالتصريح بالممتلكات المنصوص عليه دستوريا والمفعل على أرض الواقع منذ 2008 الذي يبقى حبرا على ورق إذا لم تترتب عنه إمكانية المساءلة الزجرية بعد ثبوت الفعل المرتكب. لذلك، جاء في توصيات المجلس الأعلى للحسابات في أحد تقاريره إدخال عقوبات ردعية لعدم التصريح أو لتقديم تصريح كاذب أو غير مكمل، كما أن تتبع ثروات القضاة وأعضاء عائلاتهم مقتصر على القضاة دون غيرهم من الموظفين ومسؤولي الدولة، وفي ذلك حيف.

لذلك، بات من المؤكد التجريم في حق من يحدث اختلالا ومسا بضوابط المجتمع عن طريق خلق التفاوت الطبقي والاغتناء بصفة غير مشروعة، من خلال سن قوانين في مواجهة الجريمة متمثلة في القانون الجنائي. والسؤال المطروح لماذا اعتبر هذا التجريم مخيفا ولم يحظ بإجماع الفرق؟

وللإشارة وعلى سبيل المقارنة، عمدت كثير من الدول في إطار خططها لمكافحة الفساد إلى تجريم فعل الإثراء غير المشروع، منها مصر والأردن ولبنان والجزائر والسنغال ومالي والأرجنتين، وهي غالبا دول تعاني من معضلة المساس بالمال العام.

وإن دولا ذات تشريعات عريقة كذلك انتصرت لتجريم الإثراء غير المشروع، علما أن ما قد يثار بخصوص قرينة البراءة من خلال قلب عبء الإثبات الذي يقع على عاتق الادعاء، فإن الزيادة الفاحشة والطارئة في الثروة وعدم ملاءمتها وتناسبها مع الدخل الشهري بناء على معطيات تتوفر عليها سلطة الادعاء، بإمكان المتهم أن يثبت مشروعية مصدر أمواله المتأتية من الإرث أو الزواج بميسور، أو أي مصدر آخر يشرعن هذه الزيادة الطارئة.

وفي هذا الصدد فقد عللت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ما ذهبت إليه من كون القرائن الموجودة في القوانين الزجرية لا تتعارض مع قرينة البراءة ما دامت في حدود معقولة وتتناسب مع خطورة الفعل مع ضمان حقوق الدفاع.

لذلك وما دام الفوران الشعبي ينحو منحى عدم الإفلات من العقاب ومحاربة التفاوت الطبقي المبني على نهب المال العام والاغتناء الفاحش دون مبرر مشروع، مع استشراء حالات ملموسة للإثراء غير المشروع واستفحالها، فإن تجريم هذه الأفعال التي تجد سند تجريمها في ملاءمة المغرب لقوانينه مع المواثيق الدولية وكذا مطابقتها لدستور 2011، ناهيك عن الهبّة الشعبية المطالبة بربط المسؤولية بالمحاسبة ونبذ الإفلات من العقاب، ليعتبر أمراً محمودا متماشيا مع المقتضيات الدستورية والمواثيق الدولية وطموحات المنظمات الحقوقية وعامة المواطنين.

ومن المفروض أن يوحد رأي الأغلبية والمعارضة بدل اختلاف وتشرذم الأغلبية الحكومية والحكم على مشروع قانون جنائي بالجمود عبر مختلف التأجيلات لمدة ولايتين برلمانيتين، علما أن القانون الجنائي المطبق حاليا كان يتلاءم مع دستور 1962! فمتى ينقشع السحاب ونحظى بتمرير مشروع قانون جنائي ومسطرة جنائية يتلاءمان مع المستجدات الوطنية والإقليمية والدولية والثورة الالكترونية بايجابياتها وسلبياتها؟