قضايا

أنماط التفكير المبنية على الأوهام والتمني والمعجزات

عبد الله شنفار

تسود بالمجتمعات العربية والإسلامية عدة أنماط من التفكير؛ فنحن في بيئة مسكونة بالدين والتدين؛ فما هي صور وأنماط التفكير السائدة في مجتمعاتنا؟ وما هو الفرق بين التفكير الاستراتيجي وعملية التخطيط الاستراتيجي للمستقبل؟ وأين يكمن الخلل في أنماط التفكير لدى البعض في مجتمعاتنا؟ وما هي التشوهات والاضطرابات التي تصيب أنماط التفكير والتكوين لدى بعض القادة والمسؤولين في مجتمعنا؟ وهل هؤلاء القادة والمسؤولون مؤهلون تاريخيا وأيديولوجيا لتدبير الشأن العام، على المستوى الوطني والجهوي والإقليمي والمحلي وحتى الدولي، عبر بلورة سياسات عامة وعمومية وقطاعية؟ وهل لهم من القدرة والشجاعة والجرأة ما يكفي من أجل اتخاذ قرارات لتفعيل ذلك؟ ماذا يقصد بالنهوض أو النهضة؟ ما معنى حالة الدين؟ وما معنى حالة التدين؟ كيف يتم تصريف صور ومبادئ الدين إلى أشكال من التدين؟ ما هي صور الإعاقة في الفعل التي يصاب بها البعض عند تنزيل وتصريف قواعد الدين أو النص إلى تشكلات من التدين؟ كيف يتم التسويق لحزمة الدين والتدين ومختلف القيم الإنسانية والمشترك بين الناس ومختلف الشعوب والأمم؟ ما هي مختلف الشوائب التي علقت أو أصيب بها الدين والتدين عبر الأزمنة والمحطات التاريخية منذ حجة الوداع، أو منذ يومهم ذاك، إلى يومنا هذا من حذف وتحريف ومزيد ونقص وحجب من أجل رفع المعنويات أو إعطاء انطباع من خلال المغالطات المنطقية؟

من خلال دراسة أنماط التفكير هاته، يمكن استحضار بعض عناصرها كالآتي:

هناك التفكير بالتمني، وهو شبيه إلى حد ما بالتفكير بالمعجزات؛ حيث يواجهونك أصحاب هذا النوع من التفكير بقوله تعالى: {قل ‏لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا‏}، ولا يعترف حتى بفيروس كورونا ولا يتخذ أي إجراء للوقاية منه. أو بقوله تعالى: "إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، مع أن كل الاحتمالات والقراءات تقول إنه لن ينجح في مشروعه مهما كان. أو يحاول جاهدا تبرير الفشل بأنه سوء تقدير، وقد قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعلْ، مع أن الجميع قد نبهه إلى الحفرة التي سيسقط فيها لا محالة وهو عائد إلى الوراء.

فكيف نستطيع أن يكون بلدنا منافسا قادرا على الدخول إلى مصاف الدول عالميا، وإلى اقتصاد السوق العالمية، أي هل هذه الطريقة في التفكير لدى النخبة ستتيح لنا اللحاق بالمراكز الرأسمالية المتقدمة والمسيطرة عالميا؟

اعتبار أن السياسات العامة والعمومية والقطاعية، ومن خلال مسلسل الفعل الإداري ومساراته، تشكل معطى مهما لرصد تطور دولة ما أو إدارة أو مؤسسة معينة، بحيث إن موضوع السياسات العامة أصبح يؤخذ كمؤشر من بين المؤشرات لتقييم عمل الأنظمة السياسية في إدارة الحكم وتدبيره.

ويتجلى ذلك من خلال أن مؤسسة البنك الدولي في تقريرها عن مؤشرات إدارة الحكم لكل عشر سنوات ركزت بالأساس على مدى قدرة الحكومات على بلورة وتنفيذ سياسات عامة ومدى مصداقية التزام هذه الحكومات بتلك السياسات كمعيار للفعالية الحكومية، وذلك من خلال معايير مضبوطة اعتمدتها في عملية تقييمها للسياسات العامة والقطاعية والعمومية بمختلف الدول المعنية بمنحها القروض المالية التي حددتها في المعايير والمؤشرات التالية:

أولا: نوعية الخدمات العامة المقدمة من قبل الحكومات لتلبية الطلبات الاجتماعية ونوعية أجهزة الخدمة ودرجة استقلاليتها عن الضغوطات السياسية، وغيرها من الضمانات الفعلية.

ثانيا: إبداء الرأي والمساءلة الديمقراطية وحرية التعبير والتنظيم وتكوين الجمعيات، وحرية وسائل الإعلام والاستقرار السياسي وغياب مسببات العنف السياسي الرئيسية، وكذا مدى قدرة المواطن في بلد ما على المشاركة في انتخاب أعضاء حكومته بشكل حر ونزيه.

ثالثا: مؤشرات الإرهاب والاستقرار السياسي وانعدام العنف؛ أي مختلف التصورات المتعلقة باحتمال زعزعة استقرار الحكم من خلال وسائل غير دستورية أو عنيفة، بما في ذلك الأعمال الإرهابية والانقلابات العسكرية.

رابعا: معيار الفعالية الحكومية؛ أي نوعية الخدمات العامة ووضع السياسات العامة ومدى مصداقية والتزام الحكومات بتلك السياسات ونوعية الإجراءات التنظيمية وقدرة الحكومة على تنفيذ قرارات وإجراءات تنظيمية سليمة تسمح بتشجيع القطاع الخاص وتنميته ومدى سيادة القانون ومدى ثقة الناس فيه.

خامسا: مؤشرات مكافحة الفساد ومدى محاربة استغلال السلطة العامة لتحقيق مآرب خاصة ومكاسب شخصية، بما في ذلك إعمال الشطط واستحواذ أصحاب المصالح الشخصية على ممتلكات الدولة.

هناك إذن رهانات وتحديات أمام المسؤولين، فشروط اقتصاد السوق، ومن خلال البنى الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية لبلدنا ستؤدي إلى مزيد من التهميش والضغط الاجتماعي، كونها لا تتناسب ونظمنا؛ حيث سيطرة المراكز وقدرتها على التحكم في وسائل التكنولوجيا، والنظام المالي، والتأثير على الرأي العام، والرأي السياسي، والثقافة، كلها أساليب غير اقتصادية، لكن لها تأثير كبير.

فنحن ننتمي إلى العالم المتخلف الذي يلعب دورا متواضعا على المسرح العالمي، وذلك بحكم العلاقة غير المتكافئة على مستوى المنتظم الدولي. فالتعاون شمال جنوب في إطار ما يسمى "بإمبراطورية الفوضى" لا يعد سوى مجرد شعار ديبلوماسي؛ وبالتالي فاللحاق في إطار الاعتماد المتبادل يبقى طوباويا بحكم عنصر الاستقطاب الذي هو روح الرأسمالية وسياسة الهيمنة.

لقد أصبح معروفا اليوم أن قوة الدولة في إطار ما يسمى بـ "نظام عالمي جديد" لم تعد تقتصر فقط على المجال والعتاد العسكري، بل قوتها إنما تكمن في مدى متانة وقوة اقتصادها، قوة التكويم الرأسمالي واعتمادها على الذات؛ فكم من دولة لها قوة عسكرية ضاربة لكن هياكلها الاقتصادية تعيش حالة من العجز، وبالتالي لا تشكل قوة على الساحة الدولية، فالدول في الصف الأول أصبحت تلوح بورقة التغذية (الخبز) كسلاح فتاك لا نظير له، فالذي لا يضمن قوت يومه من الخبز، أصبح لا يملك حريته في اتخاذ القرار وتحديد سياساته الداخلية.

لقد تم تجاوز دور الدولة التقليدي، وتشعبت تدخلاتها، وأصبح عبء التنمية بمفهومه الشامل يقع على عاتق الدولة في آخر المطاف، كعنصر عول عليه كثيرا لتحقيق الرفاه والعيش الكريم للإنسان المغربي، وتحت طائلة "ايديولوجية الصالح العام" تم إبعاد عنصر الخواص، وجاءت مرحلة للتنازل عن هذه الأيديولوجية ونهاية عالم وتوجهات ما سمي بالتأميم، المغربة، الصالح العام بصفة عامة، وأصبحنا نلوح بورقة الخوصصة، التدبير المحلي، التدبير بالوكالة أو التدبير المفوض... إلخ.

لكن هذه المرة، أن نقرر الدخول في رهان الجهوية الموسعة؛ ذلك ما يحفزنا على ضرورة طرح السؤال هل وصلنا فعلا إلى تجربة في مجال سياسة اللامركزية تسمح بتخلي الدولة لفائدة النخبة الجهوية والإقليمية والمحلية وترك المجال لها لاتخاذ القرار الجهوي والإقليمي والمحلي ورسم السياسات العمومية الجهوية والإقليمية والمحلية المناسبة لها؟

إن جدلية الاعتماد المتبادل في معادلة القرار الترابي ومتطلبات التنمية المجالية، من خلال الأسس الثلاثة التالية:

ضمان تنمية المجتمع المحلي، من جهة أولى، التي ليست بالعشوائية أو الارتجالية؛

لكن ضمن رسم البرامج والاستراتيجيات، والخطط لبلوغ الأهداف من جهة ثانية؛

وأن يكون قابلا للتطور والانفتاح من خلال تضمين ذلك مرونة كافية، من جهة ثالثة.

ومن أجل رسم استراتيجية تنموية تستشعر مخاطر المستقبل وتساير هذا التطور الحاصل وتفادي النقص الحاصل في التكويم الرأسمالي، دعا جلالة الملك إلى تبني نموذج تنموي جديد يقوم على ثلاثة عناصر أساسية: تقويمية واستباقية واستشرافية. خطاب جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والستين لثورة الملك والشعب.

كما حدد ذلك بالقول: "فالذين يرفضون انفتاح بعض القطاعات، التي لا أريد تسميتها هنا، بدعوى أن ذلك يتسبب في فقدان مناصب الشغل، فإنهم لا يفكرون في المغاربة، وإنما يخافون على مصالحهم الشخصية". مقتطف من نص الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 20 لعيد العرش العام 2019.

إن النشاط الإداري بصفة عامة، يحتاج إلى الوسائل المادية الضرورية لإنجازه من جهة، والعنصر البشري الكفء والوسائل القانونية التي تضبط سير الإدارة وتحدد نشاطها وتدخله من جهة ثانية، كدعامات أساسية لكل فعل إداري وتنمية إدارية تسعى إلى الرفع من مستوى الخدمات المقدمة للمواطن بأقصى سرعة ممكنة.

وحتى لا نكون من أصحاب الفكر بالابتلاء والأفكار التبخيسية وحاملي الفكر العدمي والتشككيين والنظرة المتطرفة إلى الفعل الإداري والمتحقق من التنمية، ومن رؤية الطرح الواقعية، دون الأخذ بالفكر الاعتباري، يمكن القول إن مغرب سنة 1956 ليس هو مغرب العام 2020، سواء على مستوى الإنجازات والمشاريع المحققة، أو دينامية وتطور المجتمع المغربي، الذي عرف نقلة نوعية على مستوى العديد من المجالات في البنيات التحتية الأساسية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والسياسية. حقيقة لا يمكن إنكارها، إلا أنه لا زلنا نحتاج لمزيد من الجهد المتواصل حتى نستطيع أن نقوم الاعوجاج ومواطن الضعف، وحتى نستطيع اللحاق بالمراكز العالمية المتقدمة وعلى جميع المستويات.

من خلال هذه الفرضيات يمكن صياغة الإشكال المراد تفكيكه في: جدلية الاعتماد المتبادل في معادلة الفعل الإداري والتنمية، أي هل وكيف يمكن أن تتعايش عقلية الإدارة المغربية بوضعيتها الحالية هاته ورهانات ومتطلبات اقتصاد السوق والجانب الاجتماعي والسياسي للإنسان المغربي؟ وبعبارة تقول الأوضح هل وكيف في مقدرة الإدارة المغربية بعقليتها وفعلها هذا أن تجعل التنمية تأخذ مسارها الصحيح من خلال وضع استراتيجية لمعادلة الصالح العام والصالح الخاص، أي من خلال العمل على تشجيع وإتاحة الظروف الملائمة للمبادرة الفردية، مع توجيه ذلك نحو خدمة الصالح العام؟

وفي إطار مشروع بديل لهذه العلاقة القائمة والمتأزمة، هل يمكن الحديث عن إمكانية للتجاوز في إطار نموذج تنموي جديد يقوم على تسويات سياسية واجتماعية واقتصادية، تجعل السيطرة تنتفي على المستوى السياسي والاجتماعي، في أفق تشكيل جبهة تستطيع القضاء على أساليب سائدة للتصرف، وبالتالي مجتمع يستطيع الوقوف في وجه النزعات التسلطية للفعل الإداري؟

اشتهر فرانسيس بيكون، الفيلسوف الإنجليزي، بقيادتهِ للثورة العلمية عن طريق فلسفته القائمة على الملاحظة والتجريب. حيث شعر بيكون أن الدراسة ليست غاية أو حكمة في حد ذاتها بقدر ما إن المعرفة إن لم تكن مقرونة بالفعل تبقى مجرد زهو وغرور علمي شاحب، ويقول: "إن إنفاقك في الدراسة النظرية وقتًا طويلًا هو ضرب من الكسل والخمول ومضيعة من الوقت والعبث، والتحلي بها تصنعا وتكلفا مجرد حب في التباهي والظهور، وإن الاستناد في إصدار الأحكام على الدراسة النظرية وقواعدها يبقى ضرب من مجون العلماء وأمزجتهم". ويرى أن هنالك حكمة خارج الدراسة النظرية وأهم منها، وهي حكمة تُكتسب بالملاحظة. حيث ينبغي أن يكون الفكر مساعدًا للملاحظة وليس بديلا عنها.

إن تحليل بيكون هذا قد وضع حدًا للفلسفة المدرسية ووضع أهمية التجربة والنتيجة التي تميز الفلسفة الإنجليزية والتي بلغت ذروتها في فلسفة البراغما تزم أو (المذهب العملي) وهو المذهب الذي يقول عنه: إن أهمية المبادئ تكمن في نتائجها العملية.

فالذي لم يستطيع الأبوان تحقيقه في حياتهما، يصبحان ينتظرانه من أبنائهما. وما يزيد في تعميق الهوة حينما تخرج التنشئة إلى البيئة المحيطة بها فتعاين فعلا سيادة هذه التربية، فتنساق هي الأخرى ويتولد لديها الاقتناع بأفكار وتربية والديها، فتصل يوما لتسلم المسؤولية وهمها الوحيد هو تحقيق اقتناع دفين في اللاوعي واللاشعور الماضي والطفولة.

وحتى الأحزاب السياسية هي بمثابة قنوات للتنشئة السياسية تنضاف إلى قنوات التنشئة الاجتماعية في ضبط واستمرارية النسق.

نستنتج إذن أن مشكل عقلية الإدارة المغربية هو مسألة تربية، تبدأ من المجتمع الصغير الذي هو الأسرة، أي دور الأب والأم ومدى وجود نظام تسلطي من جهتهما حيث درجة تهيئ الظروف، التي تنعكس على أوجه أخرى سلبا أو إيجابا على البناء الشخصي للأبناء الذي ليس شيئا آخر سوى هذه العقليات الإدارية التي تؤطر وتشرف على الإدارة.

فالمدرسة من خلال توجيه التنشئة وللعلاقات الاجتماعية تشكل في مجموعها مجمل علاقات الفرد، ومجالات تفاعله، وبالتالي فمن الناحية المعرفية تعتبر جميعها ذات تأثير على سلوك الأفراد وعقلياتهم. فالمدرسة ليست وحدها الأداة المرجعية لحكم الباحث على موقف وسلوك الفعل الإداري والعقليات الإدارية، ولكن هناك مرجعيات أخرى كالإدارة نفسها، أي من خلال مقارنة عقلية إدارية بمن نعدهم مساوين لها في نفس العمل والنشاط الإداري، كمحددات أخرى في مجال التربية.

فحينما نتحدث عن التوجيه، يعني ترشيد وعقلنة العملية التربوية وتعبئة الموارد من منظور استراتيجي حول الهدف من التكوين أو التعليم، حتى يصبح لدينا الرجل المختص في المكان المناسب له. وهنا تكمن المشكلة بحيث إن المعاهد والمدارس والكليات التي تتخرج فيها العديد من العقليات الإدارية والأطر لا تسمح بتقييم عمل خرجيها، وذلك لأنه بمجرد الخروج من المعهد أو المدرسة أو الكلية، تتم القطعية. يبقى السؤال إلى أي حد تساهم هذه البرامج وطرق ووسائل التكوين والتوجيه التي تعمل بها هذه المؤسسات في إغناء الإدارة بعقليات فعالة؟

فالوظيفة العمومية تتواجد في إطار نظام من الاختيار والتكوين المستمر للأفراد، لكن أية تربية أو تكوين نريد، ولأية تنشئة؟ تكوين مهني وتقني، أم يكفي تكوين وثقافة عامة؟

فالتكوين المهني لوحده غير كاف. والتكوين العام أو الثقافة العامة غير كافية لوحدها أيضا، فالأولى وحدها سوف تقود إلى عقليات تكنوقراطية، في حين التكوين العام النظري سوف يؤدي بصاحبه إلى تقليص معارفه التقنية ومعرفة خبايا الأمور، وبالتالي فقدان التحكم والضبط والرقابة. نستنتج إذن أن العقلية الإدارية المطلوبة هي التي تجمع بينهما معا.

فالمدرسة هي إحدى الأجهزة الأيديولوجية للدولة كما ذهب إلى ذلك "ألتوسير" التي تجعل من التنشئة مخلوقات لها، كسواعد منظمين، ومروضين وحاملي شواهد، ومشكلتنا ليست قلة مصادر التكوين، ولكن تفعيل هذا التكوين والتأثير فيه من خلال البرامج والسياسة التعليمية ورسم الأهداف والتوجهات. إلا أن التطور الحاصل في المجتمع المغربي على المستوى الداخلي، وأيضا التطور الحاصل على المستوى العالمي، أصبح يتطلب مسايرة التكوين لهذه المتغيرات.

صحيح أن الاهتمام بالسياسة التعليمية كان منذ المخطط الخماسي الأول، الذي أشرف عليه المجلس الأعلى للتربية الوطنية لوضع البرامج التعليمية-التي لازالت حتى يومنا هذا-حيث تم رسم التوجهات الكبرى للتعليم في إطار المبادئ الأربعة التالية: التوحيد، التعريب، التعميم والمغربة. وقد تخللت هذه المخططات عدة مؤتمرات وتجمعات لتأطير هذه الرباعية السياسية، إلا أنه غلب طابع بحث التعريب على هذه المؤتمرات والاصلاحات دون الاهتمام بعنصر مهم وهو توجيه التعليم نحو المردودية والانتاجية، بحيث إن سياسة التكوين المهني لم تبدأ وتعمم إلا في السنوات الأخيرة.

وهكذا بقي البحث في السياسة التعليمية لم يبرح مكان الشكليات كالتعريب وإدخال بعض التعديلات على برامج التعليم الأساسي الابتدائي والثانوي وتضخيمها ببرامج "كاريكاتورية"، دون أن تمس الجوهر، أي الجمع بين تعليم نظري وتطبيقي عملي، ووضع عدة بدائل للاختيار، حتى تستطيع التنشئة التوجه نحو النشاط الذي تستطيع أن تبدع وتخلق وتجد نفسها فيه، وبالتالي فالقوة الإبداعية الكامنة في المورد البشري لم تستطع عقلية الإدارة المغربية من خلال سياستها وخياراتها وبدائلها التعليمية أن تترجمها إلى الواقع، فبقينا نعيش حالة الفقر التكنولوجي والعلمي في العديد من المجالات.

والغريب في الأمر أن نفس العقليات التي قرأت ودرست وتعلمت على نفس تلك الأسس والبرامج التعليمية التي لم يطرأ عليها أي تغيير إلى حد الآن نجدها تنتقد السياسة التعليمية، وتتموضع في موقع غير المسؤول عن هذه الوضعية التي نعيشها.

وبناء على توجيهات ملك البلاد، انكب المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على إعداد رؤية استراتيجية لإصلاح نظام التربية والتعليم 2015-2030، وتمت المصادقة عليها، من خلال إرساء مقومات ودعامات مدرسة جديدة قوامها:

1) الإنصاف وتكافؤ الفرص،

2) وترسيخ الجودة،

3) والإعمال الفعال والملائم للنموذج البيداغوجي،

باعتباره جوهر عمل المدرسة بمختلف مكوناتها، وأساس اضطلاعها بوظائفها في التربية والتعليم والتكوين. وانطلاقا من ذلك، تبني رؤية استراتيجية لإصلاح التعليم، باعتماد منهاج وطني مندمج، بمكونات جهوية، على مستوى شعب ومسالك وأقطاب الدراسة بأطوارها التربوية والتكوينية، تقوم على تفاعل وتكامل المواد والتخصصات، ووظيفية التقويم، ونجاعة التوجيه التربوي، والاستناد إلى أطر مرجعية ومعرفية في هندسة مختلف الأطوار بقطاعات التعليم بأنواعه؛ المدرسي والعالي والعتيق والتكوين المهني، مع تدقيق وظائف هذه الأطوار، في مراعاة لخصوصية كل طور وموقعه داخل المسار الدراسي للمتعلم، ووظيفته التربوية.

أما على مستوى المناهج والبرامج، نهجت الرؤية استراتيجية لإصلاح التعليم بإعادة النظر في المناهج والبرامج والطرق البيداغوجية، في أفق تخفيفها وتنويعها، وتوجيهها نحو البناء الفكري للمتعلم وصنع العقول من خلال تنمية مهارات الملاحظة والتحليل والاستدلال والتفكير النقدي لديه، وتركيز المناهج على الاهتمام بالمتعلم باعتباره غاية للفعل التربوي، وتشجيعه على تنمية ثقافة النقد والمبادرة والاجتهاد، والتفاعل معه كشريك، وذلك بإدماجه وتكليفه، في إطار العمل الجماعي، بمهام البحث والابتكار والمشاركة في التدبير، والربط المنتظم للمعرفة النظرية بالمعرفة التطبيقية، وترسيخ الثقافة الوطنية بمكوناتها المختلفة، وتعزيز حضورها داخل المقررات الدراسية.

وخلصت وثيقة الرؤية الاستراتيجية للتربية والتكوين والتعليم إلى إعادة النظر في تدبير الزمن الدراسي، والتخفيف من كثافة البرامج، وإصلاح شامل لنظام التقييم والامتحانات، مع العمل على تشجيع التفوق بناء على معايير الاستحقاق.

فالإدارة هي أيضا مدرسة للتربية، بحيث إن الرئيس ذا الشخصية القوية والفعالة يستطيع ترسيخ أهداف الصالح العام لدى مرؤوسيه، وروح المسؤولية وتعاون الجسم الوحيد.

والتربية أيضا تحيل إلى التوجه نحو التكوين واستكمال التكوين للعاملين والمستخدمين كيفما كان مستواهم التسلسلي أو الرئاسي من خلال إسداء النصح وزرع الحماس، واستئصال كل سلوك لا يليق بالعمل والنشاط الإداري، كالتملق، الرشوة، الاختلاس وغيرها.

والرقابة الإدارية هي أيضا تربية، قبل إنزال العقاب، وذلك من خلال إسداء النصيحة أولا وترشيد وتوجيه الأشخاص نحو الصواب، بحيث كثيرا ما يجهل ويغفل أو يرتكب الأشخاص الغلط ولكن عن حسن نية (كما هو الشأن بالنسبة للعديد من رؤساء المجالس الجماعية). إلا أن إنزال العقاب بهم دون التمييز بين كل حالة على حدة يؤدي إلى نوع من الإحباط وعدم القدرة على المبادرة في اتخاد القرار؛ فالتوجيه والترشيد أولا وثانيا، والعقاب ثالثا، فيما إذا تبين من طبيعة الأخطاء المرتكبة أنها نتجت فعلا عن سوء نية مرتكبيها.

هذه كلها صور تربية تساهم بشكل كبير في التنمية الإدارية. فالذي ينظر إليها في بساطتها قد تحيل إليه بنسبية جدواها، ولكن في الحقيقة لها دلالات تربوية جد عميقة. لأن التربية أو التغيير والإصلاح ليس بهالة كبرى، ولكن يأتي تدريجيا، شيئا فشيئا وفي إطار المتاح والممكنات فقط.

العمل الجماعي من أحزاب وجمعيات ونقابات وهيئات، أي ما يصطلح عليه بالمجتمع المدني الذي يستطيع الوقوف في وجه النزعات التسلطية للدولة، التي ليست شيئا آخر غير تسلطنا وسلوكنا وعقلياتنا جميعا. فالكل متواطئ في آخر المطاف-تعتبر أيضا مدارس للتربية.

ففينا إذن من القوى الروحية والجمالية ما يمكننا أن نصنع المعجزات، يكفي توفر الإرادة والاقتناع بضرورة ذلك. لقد تولينا المسؤولية لخدمة متطلبات التنمية، لا لعرقلتها، ولكن نحن الذين نعمل من خلال سلوكنا وعقلياتنا على فرملتها. ونحن سبب التخلف أو التقدم.

فلو كل واحد منا سأل نفسه، هل الطريقة والسلوك والعقلية التي يعمل ويسير عليها تستطيع أن تحقق لنا الأفضل، لاستطعنا بالتالي اكتشاف مواطن الضعف والقوة فينا، فتأخذ التنمية والصيرورة التاريخية والحضارية مسارها الصحيح. والوازع الخلقي هو الرقيب الباطني الذي ما يفتأ أن ينبه الفرد في كل لحظة إلى وجوب مراعاة قواعد السلوك الحسن تجاه النفس وإزاء الآخرين، وقواعد السلوك هذه عامة ومتعارف عليها، وهي التي تلزم الموظف والتاجر والزارع والصانع وصاحب المهنة الحرة كالمهندس والطبيب إلى غيره، والتي من مقوماتها إتقان العمل والتفاني فيه بجدية وإخلاص وتفادي كل صور الفساد بالترفع عن الغش والتزوير والتدليس وما إلى ذلك، إذا ما أردنا فعلا الحفاظ على الاستمرارية في الصيرورة التاريخية والحضارية.

كذلك التفكير من خلال أوهام الكهف؛ وتعني أن كل شخص يحمل معه جينات الخوف والشجاعة وانعكاس الصور لدى الأفراد. هذه الطائفة الثانية من الأخطاء هي ما يسميها بيكون "أوهام الكهف"، وهي الأخطاء التي يمتاز بها الإنسان الفرد "لأن لكل إنسان كهفًا خاصًا بهِ يعمل على حرف أضواء الطبيعة وتغيير لونها"، وهذا الكهف هو طبعه كما كونته الطبيعة ومزاجه أو حالة جسمه أو عقله.

بعض العقول مثلا تنزع إلى التحليل وترى أوجه الخلاف والتباين في الأشياء أينما وجدت، وبعض العقول بطبيعتها تركيبية تميل إلى البناء والتركيب وترى أوجه الشبه بين الأشياء.

وبعض العقول تميل كثيرًا إلى تقدير كل ما هو قديم، وبعضها تحتضن بحماس كل أمر جديد، والقليل منها تستطيع الاحتفاظ بالحد الوسط، فلا تقضي على ما أوجده الأقدمون من أمور صحيحة ولا تنظر بعين الاحتقار إلى الاختراعات الجديدة، لأن الحقيقة لا تعرف تحيزًا أو تحزبًا.

أوهام المسرح: والطائفة الأخيرة من أخطاء العقل هي الأوهام التي انتقلت إلينا من نظريات الفلاسفة المختلفة وقوانين البراهين والأدلة الخاطئة، والتي يسميها بيكون أوهام أو أصنام المسرح. ووفقًا لبيكون، إن الأنظمة الفلسفية التي نتلقاها عن الفلاسفة ليست سوى روايات مسرحية تمثل عالمًا خلقه الفلاسفة أنفسهم بطريقة روائية مسرحية وقد تُلاحظ في روايات هذا المسرح الفلسفي نفس الأشياء التي توجد على مسرح الشعراء، وأن القصص التي ابتدعت للمسرح أكثر انسجامًا وإحكامًا من قصص التاريخ الحقيقية.

إن مشاكلنا ومصاعبنا ناجمة عن العقائد التي تحول بيننا وبين الوصول إلى الحقيقة، إننا لا نتوصل إلى حقيقة جديدة لأننا نأخذ بعض القضايا والآراء كشيء مسلم به ولا نزاع فيه مع أن هذه القضايا عُرضة للسؤال والخطأ، إننا نأخذ هذهِ القضايا المسلم بها نقطة الابتداء في البحث ولا نفكر أبدًا في وضعها موضع الفحص والملاحظة والتجربة.

وفقًا لبيكون، يجب تطهير العقل وتنقيته من الأفكار المجردة والتصورات السابقة والآراء المتحيزة، أي يجب تحطيم أوهام العقل.

إن كلمة "وهم" أو الغلط كما يستعملها بيكون، هي الصورة التي ترتسم في الذهن عن الحقيقة، أي فكرة توهم العقل عن الشيء على غير حقيقته. وكتاب نظرية الفعل التواصلي عند المفكر هابر ماس، وملخصها التفاعل القائم على الخداع والتضليل؛ حيث ينطلق في نظريته الفعل التواصلي مما يسميه "المصلحة العملية"؛ إذ تعتبر اللغة من أهم الوسائل للتواصل والتفاعل بين الناس التي تحدد طرق فهمنا لبعضنا في إطار التنظيمات الاجتماعية.

ويذهب "هابرماس" في كتابه إلى أن البنيات الاجتماعية تنبني على التفاعل القائم على الخداع والتضليل بشكل منظم من أجل تحقيق المصالح الذاتية، من خلال الوعي الذاتي بما نفعل وانطلاقا من قواعد التواصل المقبولة اجتماعيًا.

وبالتالي، فالدولة هي المتحكمة في طبيعة تبديد الشك باليقين داخل مجتمعاتها التي تؤثر فيها من خلال درجة الانفتاح والانغلاق داخل المجتمع.

أما التفكير الإجرائي، ندرج أمثلة للتخطيط الاستراتيجي الإجرائي الذي عرف عبر التاريخ؛ حيث حدد "طلامز فتز" مبادئ الخطة الاستراتيجية في ثلاث عناصر رئيسية هي: تجميع وحشد القوى، وسياسة عمل القوى ضد القوى، وكذا الحل الحاسم عن طريق المعركة في الساحة الرئيسية.

في حين نجد "ليدل هارت" قد قدم ثمانية مبادئ رئيسية للتخطيط الاستراتيجي تتجلى في: مدى مطابقة الهدف مع الإمكانات المتاحة، متابعة الجهد وعدم إضاعة الهدف، اختيار الخط الأقل توقعاً، استثمار خط المقاومة الأضعف، اختيار خط عمليات يؤدي إلى أهداف متناوبة، المرونة في المخطط والتشكيل بحيث يتلاءمان مع الظروف، عدم الزج بكافة الإمكانات المتوفرة إذا كان العدو محترساً، وعدم تسديد الهجوم على نفس الخط أو بنفس الطريقة.

أما "ماو تسي تنغ" فقد حدد للاستراتيجية ستة مبادئ تختلف كثيرا عما سبق ذكره وهي: الانسحاب أمام تقدم زحف العدو، وتكون انسحابات متجهة نحو المركز، التقدم أمام العدو المتراجع، استراتيجية واحد ضد خمسة، التموين من تموينات العدو نفسه، تخطيط خمسة ضد واحد، والتلاحم التام بين الجيش والشعب.

هذا، وقد وضع كل من "لينين" و"ستالين" ثلاثة مبادئ رئيسية لاستراتيجية الحرب هي: تلاحم معنوي بين الجيش والشعب في حرب شاملة، إعطاء أهمية حاسمة للإمدادات، وضرورة القيام بإعدادات نفسية قبل البدء بالعمل المسلح.

أما الأمريكيون فقد استوحوا من خلال ظروفهم في ظل أوضاع توازن الرعب النووي في العالم مبدأين هما: الردع المتدرج والردع المرن.

أما المدرسة العسكرية الفرنسية، فقد حددت مبدأين مغايرين يقومان على: الاقتصاد والقوة وحرية العمل.

الخطة الاستراتيجية أو المشروع الاستثماري هو مجرد آلية لإنتاج وخلق وتحقيق الثروة؛ ويعني بكل بساطة مجموعة عمليات محدودة في الزمان والمكان في إطار محيط سوسيو-اقتصادي، يستهدف هدفا معينا في جدلية اعتماد متبادل بين الفكر والواقع. وهذه العمليات تسير حسب متوالية حسابية وهندسية متوازية وفق تغذية راجعة feed-back تنطلق من العناصر والمحددات التالية:

أولا: رسم فكرة للمشروع المراد إنجازه، وهي عملية مفاضلة بين عدة خيارات مطروحة، تتوقف على اختيار واحد من بين هذه الخيارات والبدائل، وتعتمد عدة معايير:

• تحليل الحاجيات والمتطلبات؛

• المجموعات أو المناطق المستهدفة به؛

• عملية اختيار بين عدة متغيرات تقنية، مالية، مؤقتة...؛

• دراسة إمكانيات عوامل الإنتاج؛

• عملية تقييم أولية لنتائج وآثار المشروع المراد إنجازه؛

• صياغة ذلك في إطار خطة تدقق المراحل اللاحقة؛

ثانيا: بلورة الفكرة حول المشروع بطريقة أكثر تفصيلا من خلال:

• مظاهر المشروع: وتعني الأهداف والنتائج المتوخاة وطبيعة الأشغال؛

• مظاهر التمويل: تكلفة المشروع، وطريقة تمويله؛ تمويل ذاتي، اللجوء إلى القروض، في إطار الشراكة...؛

• مظاهر التنفيذ: مذكرة حول توقعات الإنفاق والمصاريف.

ثالثا: التحليل والدراسة للمشروع أو الفكرة، وهي:

• مجموعة عمليات تتخلل مراحل المشروع، وهي:

- إما دراسة أولية؛

- أو دراسة انحرافيه؛ وتعتمد التحليل التقني، النقدي المالي والاقتصادي، وكلها تحاليل ودراسات في علاقة جدلية.

رابعا: اتخاذ قرار تبني الفكرة: وهي مرحلة حاسمة في مصير اللجوء والإقدام على الاستثمار، بناء على توفر المعلومات الكافية حول المشروع، وهنا تأخذ إما:

• مسار المصادقة النهائية اقتناعا بأهمية المشروع.

• أو طلب مزيد من الدراسة التكميلية حول المشاريع المضمنة بالمشروع، نظرا لعدم اتضاح الرؤية جيدا موقتًا.

• أو التخلي نهائيا عن المشروع لأسباب عدم مردوديته، أو قلة الإمكانات والمتاح، أو معارضة الأغلبية للمشروع، إلى غير ذلك من العراقيل.

خامسا: الشروع في التنفيذ: بمجرد المصادقة واتخاذ قرار الاستثمار يشرع في انطلاق المشروع وخروجه إلى حيز التطبيق.

سادسا التتبع: تنفيذ المشروع: ويتخلل مراحله نسق من التتبع، ومن رقابة وتسجيل مدى التقدم الحاصل فيه.

سابعا: نهاية المشروع؛ وتعني انخراطه ضمن المشاريع الموجودة أو في استقلاليته لكونه حديث النشأة، وهنا لازال يتطلب الأمر مزيدا من الحذر كون المشروع في بداياته الأولى.

ثامنا: التقييم اللاحق للمشروع: من خلال تقييم درجة النجاح أو الفشل، ومواطن الضعف والقوة في مراحل تنفيذ المشاريع المتضمنة به لاستنتاج الدروس والحكمة في المشاريع المستقبلية.

- التفكير الاستراتيجي؛ وهنا يجب التمييز بين مفهوم التفكير الاستراتيجي كمصطلح يستعمل بكثرة في القاموس العسكري والمدارس الحربية العليا، لفائدة المستقبل، الذي هو نوع من استشعار مخاطر وتحديات المستقبل، ومفهوم التخطيط الاستراتيجي الذي هو منظومة مجموعة تقنيات وعمليات وبرامج ومخططات وخطط عمل تستهدف تدبير أزمة معينة مطروحة في الحاضر، تتضمن مجموعة مدخلات ومخرجات قضايا ومشاكل، وتخضع لنظام ضبط وتحكم.

- التفكير السياسي؛ حيث في البلاد الأكثر تخلفا يجد المثقف نفسه أمام عدة خيارات، إما أنه يسبح مع التيار وبالتالي يشارك في عملية صنع القرار مع الأنظمة الحاكمة، وبذلك نجد العديد من المثقفين في أمريكا وإفريقيا يشاركون في القرار داخل الأنظمة البيروقراطية الضخمة، أو يقف موقف المتصالح أو العاجز عن مواجهة عقلية وسلوك الأنظمة، فيكيف سلوكه تارة مع هذا الاتجاه وتارة مع ذاك، في حين نجد سلالة من "القنافذ" التي استطاعت فعلا أن تسبح ضد التيار، وبالتالي نرى أن العلم يتنافى فعلا والأيديولوجيا ويتماهى مع الحياد الاكسيولوجي، فأصبح ينظر إليها بالنظرة المتمردة الفوضوية أو الثائرة ضد ما هو قائم.

رجل السياسة يؤمن بالتسويات والإيمان بالفكر المغاير وقبول الدخول في رهان العولمة والحرية الاقتصادية؛ أصبح يتنافى وسيادة الثقافة التناحرية، ويتماهى والتسويات وايجاد صيغ للتحاور أو حتى المساومات، وهي آليات تعبر عن تطلعات مختلف الشرائح الاجتماعية، وذلك لأن من حق كل الفئات أن تعبر عن مشارعها، في إطار وسائل لاحتواء الصراع ووضعه في إطاره الشرعي؛ وذلك من خلال احتواء المناقشات السياسية وهي وظيفة لم يستطع البرلمان المغربي أن يتخلص منها.

والفئات الاجتماعية في النظام الليبرالي والاقتصاد الحر لا تقبل أن تكون في صراع لا متناه ودائم؛ حيث تبحث دائما عن ايجاد صيغ للتحاور والتفاهم ولا تسمح بأن تصل إلى التناحر، وتندرج في إطار كثلة اجتماعية أو ائتلاف أغلبية في المجتمع، تحيل إلى نظام مستقر يقوم على التحالفات والتسويات بين مختلف الفاعلين وأطراف اللعبة. هذه الأغلبية تسود وتفرض فلسفتها وتوجهاتها حينما تقنع الكل بأنها تسعى إلى خدمة الصالح العام، وبالتالي تأخذ بعين الاعتبار كل المصالح الاجتماعية والقوى الفاعلة.

ماكس فيبر [1864-1920] هو أحد منظري التنظيم الذين ركزوا على كيفية الوصول إلى مردودية في الإنتاج انطلق من العناصر التالية المتحكمة في التنمية الإدارية حيث يرى إما سيادة:

• سلطة كاريزمية؛

• وضعية الأبوية؛

• سلطة علائقية أو بيروقراطية.

يمكن القول إن الفعل الإداري المغربي والإدارة المغربية تسودها عقلية علائقية تقليدية بين الرئيس والمرؤوس تحيل إلى العلاقة التقليدية الأبوية؛ حيث الأب لا يعرف أي شيء عن مشاكل أبنائه، وأحيانا يفاجأ بردود الفعل لديهم أو أخطائهم، وذلك ناتج عن غياب التواصل بين الأفراد، نظرا لسيادة سلطة علائقية بيروقراطية في جانبها السلبي.

فالتقرب من المرؤوسين ومعرفة مشاكلهم لا يعني التقليل من سلطة شخص الرئيس أو عما يحس به من احترام تجاه مرؤوسيه، بقدر ما هو نوع من التأثير على مردودية العمل الإداري لتفادي الصراع بين العقليات على الأقل في جانبه الظاهر. وهنا أيضا غياب سلطة كاريزمية تذوب الصراع وتعمل على ضبط النسق داخل الإدارة أو بين مختلف الإدارات.

وهذا الوضع أفرز فئات تنضيديه: الفئة الأولى، وعلى الرغم من سلبياتها فإنها تتغذى من مشارب فئوية، مغلوب على أمرها تستفيد من وساطات تلك، فتقف موقف العاجز أو المتصالح والمتكيف مع الفئات والنخبة الطفيلية وتقوم بتنميط سلوكها حسب متطلبات تلك. في وقت نجد فئة ثانية تنادي بالتغيير، وترتكز على العنف أحيانا، وتجهل مسببات الأمور أحيانا أخرى، ومن خلال موقفها هذا بقيت تعيش نوعا من العزلة بسبب هشاشة تكوينها، وفئة ثالثة تستفيد من بقاء الوضع على حاله وتتدخل بشتى الوسائل والطرق لمنع أي تغيير، الشيء الذي يحد من فعالية أية سياسة إصلاح أو تغيير.

التفكير الأيديولوجي؛ المشروع التنموي الوطني الذي ضحى الإنسان المغربي من أجله ولازال يضحي، والمتمثل في المبادئ الثلاثة التالية:

الأول: مبدأ الوطني أو الوطن. لكن ما معنى وطني؟ فوطني يعني التقوقع على الوطن، كيفما كان هذا الوطن منسجما أو غير منسجم، وبتركيبته التنضيديه الاجتماعية المتنافرة.

الثاني: مبدأ الديمقراطي: والديمقراطية هي إحدى المطالب العامة؛ والديمقراطية بشكل بسيط بنية اختلاف، مصالح متناقضة للطبقة العاملة، الفلاحين، التجار، المهنيين... إلى غير ذلك. فئات اجتماعية عديدة ومتنوعة تستطيع تنظيم نفسها بشكل ديمقراطي مستقل عن الدولة، ويبقى للدولة دور المنسق في المفاوضات وخلق التسويات، وهنا تكمن مشروعية الدولة.

الثالث: مبدأ الشعبوي: فالتنمية لا تكون لها أية شرعية لدى الشعوب إلا إذا كانت هذه الشعوب تستفيد منها بشكل سريع ومباشر وشامل، وهذه هي الحدود التاريخية لحركة التحرير الوطني؛ فالإنسان المغربي قبل التضحيات من أجل الدخول في مرحلة التحديث وتحقيق تنمية وطنية يستفيد منها، كان ينتظر أن يستفيد من تضحياته أو يستفيد منها أبناؤه فيما بعد وأن يتولى تدبير شؤونه بنفسه.

هذا الخطاب فقد شرعيته، وذلك حتى وإن تحققت التنمية في العديد من الجوانب والمجالات، إلا أنه لم يستفد منها بالشكل الذي كان يطمح إليه، بحكم فشل السياسات القطاعية والعمومية.

لذلك أصبحنا نحتاج إلى نمط من التنمية تشرف عليه نخبة مسؤولة تستجيب للمشاكل والمطالب الشائكة والخروج من عنق الزجاجة، في ظل ظروف وملابسات داخلية ومناخ اقتصادي عالمي متغير باستمرار.

فكيف نستطيع أن يكون بلدنا منافسا قادرا على الدخول إلى اقتصاد السوق؟ أي هل هذه النخبة ستتيح لنا اللحاق بالمراكز الرأسمالية المتقدمة والمسيطرة عالميا؟

ومحددات أنماط التفكير الوهمي أو أوهام العقل في: "الأرجانين الجديد" وفق ما توصل إليه "فرانسيس بيكون"، يمكن إجمالها في العناصر التالية:

هناك ما يسمى بأوهام القبيلة؛ أفكار التنشئة... مرجعية. حلال حرام كل يتلقاه الإنسان ...

أوهام المسرح؛ طابوهات ومحرمات لا يمكن الاقتراب منها، أصنام لا يحق لك الحديث عنها تمر بالقرب منها تقول التسليم لرجال لبلاد.

أما الطائفة الأخرى من أخطاء العقل هي "أوهام السوق" التي تنشأ من التجارة واجتماع الناس بعضهم ببعض. لأن الناس يخاطبون بعضهم بعضًا عن طريق اللغة التي فرضت كلماتها على الناس وفقًا لعقلية أهل السوق والعامة؛ حيث ينشأ عن سوء تكوين هذهِ الكلمات وعدم موافقتها تعطيل شديد للعقل.

فالألفاظ تتكون بطبيعة الحال طبقًا للحاجات العلمية والتصورات العامية، فتسيطر على تصورنا للأشياء، فتضع ألفاظ لأشياء غير الموجودة بالفعل، أو الغامضة أو المتناقضة، وهذا يحدث كثيرًا في المناقشات؛ فتدور كلها على مجرد ألفاظ.

الأسرة وتربية التنشئة؛ فالأسرة والمدرسة هي الخلية الأولى التي تنتج لنا الموارد البشرية في الإشراف والتأطير. وبالتالي فالخلفية الأسرية تشكل محورا أساسيا في التربية، بحيث تعتبر عاملا مستقلا يفترض أن يؤدي فيه التباين إلى تباين معدل ودرجة التربية.

يقدم لنا بيكون أوهام العقل الإنساني، أو كما يُسميها «أصنام Idoles العقل» ومن هذهِ الأوهام:

أوهام القبيلة: وهي أوهام طبيعية بالنسبة إلى البشرية عمومًا. فقد زعم الإنسان باطلًا أنه مقياس لجميع الأشياء. فعقل الإنسان يشبه المرآة غير المستوية التي تعكس خواصها على الأشياء المختلفة وتشوهها. إن أفكارنا صور عن أنفسنا أكثر من كونها صورا للأشياء.

ومن طبيعة الفهم الإنساني أنه يفرض في الأشياء درجة من النظام أكبر مما يجده فيها.

ومن أخطاء العقل أنه إذا آمن برأي ما، سواء كان إيمانه بهذا الرأي عن طريق التسليم العام بهِ أو من أجل لذة ومنفعة تعود عليه من هذا الرأي، نجده يُرغم كل شيء آخر لتأييد وإثبات رأيه، على الرغم من وجود الكثير من الأدلة القاطعة المغايرة لرأيه الذي آمن بهِ أولا. وبعد أن ينتهي الإنسان من تقرير القضية وفقًا لإرادته، نجدهُ يلجأ إلى التجربة فـيُخضعها ويجعلها موافقة لرأيه، ويسوقها كأسير في موكب. باختصار إن العقل الإنساني ليس جافًا بل يتأثر بالإرادة والعواطف.

وتحليل ودراسة العلاقات الارتباطية يتمحور بين عدة مؤشرات:

- الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، حيث دخل الأب، مهنته، مستوى تعليمه ومستوى تعليم الأم.

- العلاقة الارتباطية بين مؤشر البيئة المادية للبيت، نوعية السكن، معدل الازدحام، عدد أفراد العائلة.

- مدى الاهتمام بتربية التنشئة، كمشاركة الأبوين في النشاط التربوي، مدى استقلالية الأبناء، سيطرة الأب أو الأم... إلى غير ذلك.

إن تواجد الدولة لتغطية جميع القطاعات، اقتصادية كانت أو اجتماعية، فرض عليها لزاما بعد عهد الاستعمار مباشرة تطوير الفرد والمجتمع وكذا ضبطه ومحاولة القضاء على التنافر، من خلال العمل على ربط علاقة تستهدف خدمته ونماءه بالأساس.

ومن خصوصيات المجتمعات الأكثر تخلفا، طبيعة التركيبة الاجتماعية المتنافرة. والمغرب لا يخرج عن هذه الخصوصية، إلا أنه مع ذلك يتميز بنوع من التعايش التنازعي. فهل استطاعت الدولة تجاوز إيقاف الصيرورة التاريخية عند حدود مؤسسة تقليدية ألا وهي القبيلة؟ بمعنى آخر ألم يحن الوقت لتجاوز تقوية وسيلة وجود متجاوزة تختزل في القبيلة والغنيمة؟ أم إنها بالعكس من ذلك تعمل على تنميتها كآلية أخرى لضبط "النسق" الاجتماعي والسياسي وحتى الثقافي؟ فالدولة بصفة عامة تعاني من قضايا وأزمات في سعيها لتطوير وتغيير أفراد مجتمعاتها. ومظاهر هذه الأزمات يمكن اختزالها في بعض العناصر الأولية كما يلي:

أولا: أزمة هوية:

بحيث من خلال قراءة بسيطة وسريعة في الثقافة الشفوية الشعبية نجد سيادة مفاهيم تحيل إلى التنافر والتباعد والتشرذم، ونضرب مثلا هذه المفاهيم القدحية: العروبي نسبة للعروبية، الشلح، نسبة للشلوح، الدراوي نسبة إلى وادي درعه، الريفي نسبة لمنطقة الريف في الشمال، الدكالي نسبة لدكالة، الصحراوي نسبة للصحراء... إلى غير ذلك من التنضيدات الاجتماعية المتنافرة.

ثانيا: أزمة مشروعيات:

وتتجلى في صعوبة، بل غياب الحوار بين الدولة ومكونات فئات المجتمع، والأخطر من ذلك منع وعدم القدرة على إنتاج مجتمع مدني أو حتى تركه يستمر إن كانت هناك إرهاصات لوجوده، مما يفضي إلى التساؤل عن شكل الدولة الوطنية التي نريد؛ هل هي الدولة الجهوية أم الدولة القبيلة؟

ثالثا: أزمة مشاركة:

أي غياب مشاركة جميع الفاعلين وفئات المجتمع وسيادة سياسة الإقصاء والتهميش والإبعاد والتجاهل والنسيان في عملية صنع السياسات العامة والعمومية واتخاذ القرار.

رابعا: أزمة توزيع:

نلاحظ أن هناك سوء توزيع للساكنة على المستوى المجالي أو الترابي، حيث حدة التركيز للساكنة النشطة بالمناطق الصناعية، من خلال الشريط الساحلي الممتد من مدينة القنيطرة حتى مدينة أكادير، مما يؤدي إلى تفاقم الهجرة من البوادي والقرى نحو المدن وما يترتب على ذلك من نتائج كأحزمة دور الصفيح والانحراف بشتى صوره والارتزاق وتجارة الدراويش (الباعة المتجولون، حرفيون بسطاء، ماسحو الأحذية، ...)، واختلال في جدلية الاعتماد المتبادل في معادلة القرية والمدينة.

ومن نتائج هذه الأزمات، تعقيد الفهم في وضعية المجتمع التنضيدي وتركيبته الاجتماعية. والمجتمع التنضيدي أو التركيبي أو التمازجي أو التنافري هي مقولة بلورها كل من "بول بسكون" ونجيب بودربالة في بحثهما عن مصادر إنتاج القاعدة القانونية في المغرب وفي إطار بحث سوسيولوجي مشترك في طبيعة تركيبة المجتمعات، حيث استنتجا وجود فسيفساء وتراتبية اجتماعية تطبع المجتمع المغربي.

فعلى الرغم من وجود منطق داخلي يوحد هذه التراتبية، إلا أنه في كثير من الأحيان يظهر على السطح التنافر السياسي والاجتماعي، خاصة بمناسبة الانتخابات، حيث بينت الدراسات حول سوسيولوجيا الانتخابات بالمغرب، التعايش التنازعي وذوبان الفرد داخل الجماعة-القبيلة، وما يصاحب ذلك من نزاع بمناسبة الحملات الانتخابية وتأثير البنى الثقافية والدينية والاجتماعية، مما أفضى إلى أزمة في مفهومي الدولة والسيادة.

وبالتالي، نستنتج أن مفهوم الخطأ في التفكير هو مخالفة القانون؛ أما مفهوم الغلط، فيحيل إلى توهم الشيء على غير حقيقته.