فن وإعلام

"أرشيف المغرب" وسؤال "الأرشيف الخاصة"

عزيز لعويسي

نشرت مؤسسة "أرشيف المغرب" - قبل أيام - بموقعها الرسمي، "أدوات عمل" رهن إشارة مرتفقيها من الباحثين والمهتمين، عبارة عن جرد لمضامين بعض الأرصدة الأرشيفية الخاصة المتوفرة في مستودعاتها، والتي تخص جملة من رجالات الفكر والسياسة والثقافة والفن والإعلام، منهم مغاربة أمثال "محمد العربي المساري"، "عبدالصمد الكنفاوي"، "عفيف بناني"، "محمد جسوس"، "محمد المقري"، "محمد بن الحسن الحجوي"، "عبدالله عواد"، "عبدالحق المريني"، "عبدالله شقرون"، "مولاي أحمد الوكيلي"، "عبدالكريم كريم" و"شمعون ليفي" وغيرهم.
وإذا كانت المؤسسة الأرشيفية قد أفلحت في وضع اليد على هذه الأرصدة الخاصة وغيرها، تفعيلا لمقتضيات المادة 24 من القانون 69.99 المتعلق بالأرشيف، التي تتيح الإمكانية أمامها في أن تتملك أرشيفات خاصة تتولى حفظها ومعالجتها والتمكين من الاطلاع عليها، عبر تصرفات قانونية تعاقدية تتم باسم الدولة ولحاسبها، حصرها المشرع في الشراء أو على سبيل الهبـة أو الوصية أو الوديعة القابلة للاسترجاع، فإن مكاسب من هذا القبيل، وإن كانت تشكل مرآة عاكسة لما تبذله المؤسسة من أدوار وتدخلات في سبيل وضع اليد على الأرصدة الخاصة ذات النفع العام، فنرى أنه ما كان لها أن تتحقق على أرض الواقــع، لولا وجود ثقة مسبقة في المؤسسة الحاضنة للأرشيف العمومي، وتقدير لا لبس فيه، فيما تضطلع به من مهام وصلاحيات مرتبطة بحفظ وصيانة التراث الأرشيفي الوطني، وقناعة راسخة، في أن ائتمان المؤسسة على الأرشيفات الخاصة، ليس فقط دعما لها، بل واعترافا بالمؤسسات المغربية، التي نتحمل جميعنا كل من موقعه، مسؤولية دعمها والارتقاء بها ودعم قدراتها، إسهاما منا في كسب رهان "مغرب المؤسسات".
وإذا كانت المناسبة، تقتضي توجيه رسائل شكر وامتنان وتقدير لكل رجالات الفكر والسياسة والثقافة والفن والإعلام الذين عبروا عن "مواطنتهم" وائتمنوا "أرشيف المغرب" على أرشيفاتهم الخاصة، سواء بمبادرة شخصية منهم أو عبر عائلاتهم، إسهاما منهم في دعم عمل المؤسسة الأرشيفية المغربية، فلن ندع الفرصة تمر، دون توجيه البوصلة نحو مبدعين آخرين منهم روائيين وشعراء، لم يجدوا عيبا أو حرجا في وضع أرشيفهم الشخصي تحت عهدة الهيئـة الأرشيفية الفرنسيـة، ومنهم  الشاعر "عبداللطيف اللعبي" والروائي "الطاهر بن جلون"، مما يجعلنا نقف أمام مفارقة غريبة عصية على الفهم والإدراك، ففي الوقت الذي نجد فيه مجموعة من المفكرين المغاربة، لا يترددون في ائتمان "أرشيف المغرب" على أرصدتهم الأرشيفية الخاصة من باب المواطنة والثقة والاعتراف بهذه المؤسسة الوطنية ذات الطابع الاستراتيجي، نجد بالمقابل نخبة من المبدعين ربما باتوا فرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم، وربما لم يعد يجمعهم بالوطن سوى الأسماء وشواهد الميلاد ...، وبعيدا عن لغة الخشب أو التيهان بين ثنايا الكلمات أو إرسال رسائل مشفرة، قد نتساءل: كيف لمبدعين مغاربة أن يأتمنوا مؤسسة أرشيفية "أجنبية" على أرشيفهم الشخصي، عوض الثقة في المؤسسة الأرشيفية الوطنية ؟ وفي هذا الصدد، ومهما كان المبرر أو القناعة الشخصية التي فرضت تغيير الوجهة، فنرى أن تصرفات من هذا القبيل، لن تكون إلا تنكرا للوطن وتحقيرا للدولة وتحجيما للمؤسسات ومساسا صارخا بالمواطنة.
الشاعر "عبداللطيف اللعبي" برر - أثناء مروره ببرنامج "بيت ياسين"- قرار ائتمانه للمؤسسة الأرشيفية الفرنسية على أرشيفه الشخصي، إلى "غياب هيئة للأرشيف بالمغرب على درجة من الخبرة والمصداقية، مثل ما هو موجود بفرنسا"، وقد نتفق مع الرجل اعتبارا لحريته في التصرف في أرشيفه الشخصي كملك خاص، وأحقيته في اختيار الجهة التي يمكن أن يأتمنها على ذلك، لكن ما تقدم به من مبرر، هو "غير مقبول" لا مبدئيا ولا موضوعيا، فمن حيث "المبــدأ"، فالأولويــة للمؤسسة الأرشيفية الوطنية من باب "المواطنة" والإسهام في دعم المؤسسات الوطنية الناشئة، بما يضمن النهوض والارتقاء بها وبقدراتها، ومن حيث "الموضوع"، فمؤسسة "أرشيف المغرب" ورغم عمرها الفتي الذي لم يتجاوز العشر سنوات، استطاعت أن تضع لها "موضع قدم" في المشهد الثقافي الوطني في ظل ما حققته من مكاسب ومنجزات تطرقنا إليها في أكثر من مقال، ويكفي القول أنها حظيت بثقة شخصيات أجنبية عديدة ائتمنت المؤسسة الأرشيفية المغربية على أرصدتها الخاصة، من أمثال "فرنسيــس كوان" و"ديزيـري سيك" والمهندس المعماري الشهير "باتريس دو مازيير"، وأمكن لها إبرام اتفاقية إعلان النوايا مع الكنيسة الإنجيلية بالمغرب حول دراسة إمكانية دمج التراث الأرشيفي للكنيسة، والذي يعود لأكثر من قرن من الزمن، ضمن التراث الأرشيفي الوطني للمغرب (أرشيف المغرب، العدد1، السنة 2016، ص24)، وتسلمت على التوالي كلا من "أرشيف هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي (بتاريخ 24 يوليوز 2017)  و" أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة (بتاريخ 9 دجنبر 2017) في إطار حفظ الذاكرة الجماعية، وما حضي به مدير المؤسسة الأستاذ "جامع بيضا" من توشيحات وأوسمة من قبل عدد من المؤسسات والهيئات الإقليمية والدولية، اعترافا بما فتئ يبذله من مجهودات وأدوار متعددة الزوايا خدمة لقضايا الأرشيف .. وهي مكاسب ومنجزات ما كان لها أن تتحقق لو الثقة في هذه المؤسسة الأرشيفية والاعتراف بمصداقيتها.
وادعاء شاعرنا بغياب هيئة للأرشيف بالمغرب على درجة من الخبرة والمصداقية، فهذا لن يكون إلا انطباعا شخصيا أو محاولة لتبرير ما لا يمكن تبريره أو شرحه، فالقول بعدم التوفر على "الخبرة" لن يكون إلا رأيا معيبا لاعتبارات أربعـة، أولها: أن ما يمتلكه شاعرنا "عبداللطيف " أو كاتبنا "الطاهر" أو غيرهم من المبدعين المغاربة المقيمين بالمهجر من أرشيف شخصي، لن يتجاوز حدود الشعر والرواية، وبالتالي لن يتطلب من الناحية التدبيرية أية "خبرة أرشيفية خاصة " أو "نوعية" على مستوى الحفظ أو التصنيف أو المعالجة، ثانيها: أن هذا النوع من الأرشيف الشخصي، لا يمكن قطعا مقارنته أو قياسه بأرصدة وثائقية "نوعية" و"مؤثرة"، على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للتاريخ والهوية والذاكرة والتراث، من قبيل أرشيف "هيئة الإنصاف والمصالحة" على سبيل المثال لا الحصر، ثالثها: أن الخبرة تأتي عبر تراكم التجارب ومد جسور التعاون المشترك، كما تأتي عبر ثقة مبدعينا في هذه المؤسسة الأرشيفية الوطنية ذات الطابــع الاستراتيجي، ومدى إقبالهم عليها لائتمانها على أرشيفاتهم الشخصية، رابعها: أن هذه المؤسسة الوطنية، ورغم فتوة عمرها، استطاعت أن تقدم "الخبرة الأرشيفية" لعدد من المؤسسات العامة والخاصة، ويمكن الدفع بها في اتجاه تقديم الخبرة للمؤسسات الأرشيفية الإفريقية، خدمة للعلاقات المغربية الإفريقية في إطار ''الدبلوماسية الأرشيفية"، إذا ما تمت إحاطتها بما يكفي من شروط الثقة والدعم والتشجيع والتحفيز، أما ادعاء "غياب المصداقية"، فنحن لسنا على علم، فيما إذا كان شاعرنا، يتوفر على جهاز لقياس درجة حرارة المصداقية، لكن في جميع الحالات، نرى أن "مصداقية" أية مؤسسة، تتجلى في عملها واجتهادها وحيادها، كما تتجلى في ما تحظى به من ثقة واحترام وتقدير، وهي مفردات نتلمسها كباحثين ومهتمين بالشأن الأرشيفي، كما تلمسها المغاربة والأجانب الذين ائتمنوا المؤسسة على ما يمتلكونه من أرصدة وثائقية خاصة، وهم بذلك، يستحقون كل الثناء والشكر والتقدير.
وبعيدا عن لغة الإدانة أو الاحتجاج، فما أقدم عليه شاعرنا "عبداللطيف" وكاتبنا "الطاهر"، هو مرآة عاكسة لنخبة من رجالات الفكر والسياسة الذين يحققون الصعود على أكتاف الوطن، ولما يصلون ويحققون قدرا محترما من الشهرة والنجومية أو ينالون ما يكفي من المكاسب، يتنكرون للوطن ويتقاعسون في الإسهام في بنائه ورقيه وإشعاعه، والبعض منهم لم يعد يربطه بالوطن سوى الاسم وشهادة الميلاد وبقايا ثقافة دالة على "تامغربيت" آيلة للانقراض، والبعض الآخر، لا يجد حرجا في جلد الوطن والنظر إليه "عن بعد" نظرة تعالي وسخرية واستهزاء وتحقير، فالأقلام مدادها "جبان" ما لم تنهل من مورد الوطن، والأفكار لن تكون إلا بئيسة أو لاجئة، ما لم تكن خادمة للوطن، والإبداع لاقيمة له، ما لم يكن حاملا لهم الوطن، والشهرة أو النجومية، معادلة لا أس لها ولا أساس، ما لم تستثمر في الإسهام في دعم الوطن وخدمة قضاياه.
لذلك، فلن نهدر الزمن في الإدانة أو نستنزف القدرة في شرح ما لا يحتاج إلى شــرح، ونحن على وعي وإدراك، أن قواعد الوطن لا يمكن أن ترفع إلا بسواعد "مواطنة" و"أمينة"، إلا بمن أنجبته هذه الأرض المعطاء من شرفاء ونزهاء، لا يدخرون جهدا في خدمة الوطن في الداخل كما في الخارج، بمحبة وتضحية ووفاء ونكران للذات، فمن يتقاعس في مد اليد للوطن أو يتردد في دعم مؤسساته أو ينظر إليه نظرة احتقار أو استهزاء، فلا خير فيه ولا أمل، وقبل الختم،  نشير إذا كان "الهم الأرشيفي" هو الذي تحكم في بناء صرح هذا المقال، فهي فرصة للإشارة، أن "التراث الأرشيفي الوطني" هو "ملك مشترك" يعكس ما نتقاسم كمغاربة من تاريخ وهوية وذاكرة وتراث، ولابد أن نتحمل مسؤولياتنا الفردية والجماعية في صيانة هذا التراث المشترك، بدعم المؤسسة الحاضنة له (أرشيف المغرب)، وبقدر ما ننوه ونثمن المغاربة والأجانب الذين وضعوا ثقتهم في هذه المؤسسة الوطنية، وفي ما تحتضنه من كفاءات وقدرات، بقدر ما نوجه رسالة مفتوحة لكل رجالات الفكر والثقافة والسياسة والإعلام والإبـداع المغاربة منهم على وجه الخصوص، بأن يأتمنوا "أرشيف المغرب" على ما يتحوزون به من أرشيفات شخصية، وفي ذلك، دعم للمؤسسات الوطنية واعتراف بقيمتها ومصداقيتها، وإسهام في ترصيــع قلادة التاريخ الوطني والهوية المشتركة والذاكرة الجماعية ... ونختم بالقول، لسنا قضاة لتوزيع صكوك الإدانة والاتهام، كما لسنا بمحامين لنترافع باسم هذا الطرف أو ذاك، ولكن نحن على استعداد لنترافع دفاعا عن الوطن ...
Laaouissiaziz1@gmail.com