تحليل

آفاق الاستثمار في القطاع الصحي والطبي في القارة الأفريقية ما بعد 'كورونا'

مصطفى قطبي

أظهرت فاشية وباء كورونا، ثغرات واسعة في الأنظمة الصحية لمجموعة من الدول، بالخصوص منها البلدان الإفريقية التي تعاني في مجملها من هشاشة البنية التحتية الصحية. وتواجه الدول الأفريقية زيادة في حالات الإصابة بمرض كوفيد-19، بينما يتوفّر لديها أقل من سرير للعناية المركزة وجهاز واحد للتنفس لكل 100 ألف شخص. وتصل كلفة الحجر الصحي في إفريقيا 69 مليار دولار شهريا.

 

وأظهر تحليل لتوقعات الباحثين أنه حتى في أفضل السيناريوهات، فقد تحتاج القارة إلى 10 أضعاف العدد الموجود الآن على الأقل عند وصول انتشار المرض إلى ذروته. ونقص المعدات الطبية في النظم الصحية الوطنية بأنحاء أفريقيا من بين العناصر الأكثر وضوحاً، التي ظهرت خلال مسح أجرته رويترز شمل 54 دولة وتلقى ردوداً من مسؤولي الصحة أو خبراء مستقلين في 48 منها.

 

وفي هذا السياق، حذرت منظمة الصحة العالمية، من ''تسارع'' انتشار فيروس كورونا في إفريقيا حيث ينتشر من العواصم، الذي وصل إليها مع المسافرين، إلى المناطق النائية. لكنها قالت إنه لا يوجد ما يشير إلى إصابات خطيرة أو وفيات لا يتم رصدها أو وجود حالات تفش كبيرة للفيروس بمخيمات اللجوء في أرجاء القارة. وأضافت ''ماتشيديسو مويتي''، المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لإفريقيا، إن عشر دول تتصدر الجائحة في إفريقيا حيث تشكل 75 بالمائة من بين نحو 207600 إصابة في القارة التي سجلت 5000 وفاة، وأشارت إلى أن جنوب إفريقيا، التي بدأت الشهر الماضي تخفيفا مرحليا لإجراءات العزل العام، هي الأكثر تضرراً من الجائحة حيث سجلت ربع الحالات.

 

وأعلنت ''مويتي'' في بيان صحافي في جنيف: ''بالرغم من أن هذه الحالات في إفريقيا تمثل أقل من 3 في المائة من الحصيلة العالمية، من الواضح أن الجائحة تتسارع. ونعتقد أنه لا يتم إغفال أعداد كبيرة من الإصابات الخطيرة والوفيات في إفريقيا''. وخلصت للقول: ''حتى يحين وقت يتوفر فيه لقاح فعال، أخشى أننا سنضطر على الأرجح للتعايش مع زيادة مطردة في المنطقة، مع ضرورة التعامل مع بعض بؤر التفشي في عدد من الدول، كما يجري الآن على سبيل المثال في جنوب إفريقيا والجزائر والكاميرون، والتي تتطلب تطبيق تدابير قوية جداً للحفاظ على الصحة العامة والتباعد الاجتماعي''.

* الخسائر الاقتصادية وتأثيراتها على الاقتصاد الأفريقي:

في ظل الجدل الدائر حول حجم الآثار الاقتصادية لهذا المرض على دول إفريقيا، فلابد من الاعتراف أن الأزمة الصحية الراهنة فاقمت من تباطؤ الاقتصاد في إفريقيا، إذ معدل النمو سينتقل في إفريقيا من 3.2 إلى حوالي 1.1 في المائة، الأمر الذي سيتسبب في ارتفاع عدد الفقراء على صعيد القارة بنسبة 40 في المائة. والأكيد الذي لا يختلف عليه اثنان أنّ هذا المرض كشف مجموعةً من الأمور ذات أهمية في اقتصاديات الدول الإفريقية، منها على سبيل المثال:

 

1- الارتباط الوثيق بين اقتصاديات أفريقيا واقتصاديات الدول الكبرى، إلى درجة أنّ أيّة صدمة في دولة ما من تلك الدول الكبرى، تؤدي إلى آثار وخيمة في الدول الإفريقية. فبمجرد إغلاق الأسواق الصينية بعد إعلان مرض كورونا من اللجنة الوطنية للصحة في الصين شُلَّت التجارة الدولية في أكثر الدول الإفريقية. لقد صدق من قال: (إذا أُصيب اقتصادُهم بالزكام، فإن اقتصاد العالم الإفريقي كلّه يعطس).

2- محاكاة النظام الرأسمالي والعمل به في أكثر الدول الإفريقية، ومع تصاعد كوفيد 19 المستجد اتضح ابتعاد هذا النظام الاقتصادي عن القيم الاجتماعية والإنسانية السامية.

3- ضرورة وأهمية العمل الجماعي المشترك لمواجهة الأزمات، والاعتراف بدور وسائل الإعلام والتكنولوجيا في هذا العصر.

 

* مقترحات استشرافية للتقليل من حجم الخسائر الاقتصادية لكورونا على أفريقيا:

 

1- إعادة هيكلة الأنظمة الاقتصادية والسياسات المالية للاكتفاء الذاتي اقتصاديًّا، ولكن للأسف الشديد أكثر الدول في القارة -إن لم تكن كلّها- سوف تتسابق إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، رغم ما لهذا الاقتراض من آثار سلبية على اقتصادات القارة.

2- بناء مناخ اقتصادي متوازن، أكثر استقلالية وملائمة لاقتصادات القارة. وثمّة تساؤل مهمّ، وهو: هل ستُجَدِّدُ الدولُ الإفريقية عهدَها بنظام الرأسمالية بعد الأزمة، أم ستتبنى مبادئ الاقتصاد الإسلامي، أم سترجع إلى النظام الاشتراكي من جديد؟ تساؤل مهمّ يستدعي البحث والدراسة العميقة.

3- تنظيم الجهود والخبرات الوطنية، لتوفير المرونة اللازمة لانتعاش الاقتصاد الوطني وفق متطلبات السوق المتغيرة.

4- الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية، وتطبيق الميزة النسبية في تحديد نمط التجارة الدولية.

5- تطويع وسائل التقنية المختلفة لتطوير قواعد الصناعة الوطنية، وابتكار صناعات تحويلية وطنية ذات كفاءة.

6- التنظيم والاستفادة من الفرص الاستثمارية في القارة؛ بحيث توجد دول تملك الأراضي الصالحة للزراعة مثل السودان وبلدان غرب إفريقيا ووسطها، وتوجد دول أخرى منتجة للنفط والمعادن. فهذا الاختلاف يعتبر مغنمًا للقارة، فإفريقيا هي القارة الوحيدة التي تمتلك جميع الموارد التي يحتاجها العالم.

إنّ الأزمة الصحية تضع الأنظمة الصحية للبلدان الإفريقية على المحك، لهذا لابد من ضرورة جعل الابتكار والبحث العلمي رافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتعليم العالي يضطلع بدور هام في تقوية العلاقات جنوب جنوب، المدعوة إلى أن تتعزز أكثر بفضل تبادل المعلومات العلمية والنهوض بالبحث العلمي، وكذا مساهمة تكنولوجيا المعلومات والاتصال في التنمية. وبدلا من انتظار اندلاع جائحة مَـرَضية أخرى، ثم محاولة اللحاق بها، ينبغي لكل البلدان الأفريقية أن تعمل على تطبيق الدروس المستفادة من هذه الجائحة لتعزيز الجاهزية والوقاية.

(الصحة)، أهم عوامل الاستقرار، ليس للفرد بل للمجتمعات الأفريقية، واليوم وجدنا بعض التقارير الصحفية تعلن أن (الصحة أهم من الحرية) الأمر الذي يعيد التذكير بـ(الصحة) كأهم معيار لتقدم و سعادة و إستقرار وكرامة المجتمعات، وبات بالإمكان القول: إنّ أول درجات السيادة (سيادة الصحة) صحة الأفراد ودفع الخاطر عنها والاستعداد لمواجهة المتوقع منها لاستباقها ومعالجتها. على الدول الأفريقية باتجاه إعادة تقييم مساراتها وتوجهاتها للمستقبل، وبمعنى آخر إعادة هندسة وتخطيط سياساتها الصحية من حيث التوسع في جانب الاهتمام بقضايا الاقتصاد، فبتصوري أن المرحلة المستقبلية، سترتكز نتائج مخاطرها وانعكاساتها على الأمن الصحي. فمن خلال هذا الوباء برزت الصحة كواحدة من أحدث المجالات في مفهوم الأمن، لأنها أمر حيوي أيضاً للبشر في جميع أنحاء العالم. وبإمكان الأمن الصحي توفير ولو الحد الأدنى من الحماية من الأمراض، أو تقليل ضرر الظروف غير الصحية على أقل احتمال.

ومن ثَمَّ فهناك عدة مسارات محتملة يمكن أن تسير فيها القارة الإفريقية، على مستوى الحكومات الأفريقية وذلك من أجل مواكبة تحولات عالم ما بعد كوفيد19، من تلك المسارات ما يلي:

إيلاء أهمية فورية للقطاع الصحي، وتعزيز القدرات المعملية والإكلينيكية بالدول الأفريقية لإجراء الاختبارات لأي مرض أو وباء مستقبلي وتوفير مسارات نقل آمنة ما بين دول القارة لتسيير البضائع والمستلزمات الطبية الضرورية، من خلال إعادة النظر في قرارات الدول بشأن فرض حظر على صادراتها من الأدوية والمنتجات الطبية. أيضا تحديد آلية للتنسيق على مستوى المراكز الوطنية لمكافحة الأوبئة عبر القارة بهدف تبادل أفضل الممارسات والخبرات.

و للتذكير، فقد أقرّ رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي في مؤتمر قمة أبوجا الخاص المنعقد بأبوجا في يوليو (تموز) 2017 لمواجهة الأمراض والأوبئة، أقرّ المجتمعون، إنشاء وكالة متخصصة لدعم الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي في جهودها الرامية إلى تعزيز النظم الصحية وتحسين المراقبة والاستجابة لحالات الطوارئ والوقاية من الأمراض المعدية. وخلال هذه القمة الخاصة، طلب المؤتمر من مفوضية الاتحاد الأفريقي أن تحدد طرائق إنشاء المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. وبناء على ذلك، أُنشئ مركز مكافحة الأمراض في أفريقيا رسمياً في 31 يناير (كانون الثاني) 2017 في أديس أبابا بإثيوبيا، بحسب خطة استراتيجية، لمدة خمس سنوات (2017-2021) ما يعني أن أزمة تفشي "كورونا" في أفريقيا تقع في نطاق عمل هذا المركز.

إن استراتيجية المكافحة للتصدي لـ "كورونا أو غيره من الأوبئة'' مبنية على الخطة السالف ذكرها، وحتى يتسنّى للدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي تسريع وتيرة تنفيذ الإجراءات، التي تمّ تحديدها على المستويات العالمية والإقليمية لتنفيذها، ينبغي تفعيل الأهداف الوطنية لمكافحة الأمراض السارية.

ورغم أن الموارد العامة محدودة للغاية، حتى أن بعض الدول تعتمد على المساعدات الخيرية، لكن لا يجب أن تبقى الدول الأفريقية دوما تعتمد على خيرية المحسنين والشركات لكسب المعارك الوبائية المستقبلية، بل القارة الأفريقية عليها أن تستثمر في القطاع الصحي والطبي، وأن تسارع إلى تعزيز أنظمتها الصحية، للحماية ضد الجائحات الـمَـرَضية في المستقبل، لا سيما فيما يتعلق بالمستشفيات الجاهزة أو سهلة التركيب والنشر في مناطق الأوبئة، ويمكن أن تستثمر شركات من القارة نفسها، على غرار شركات صينية، فقد أثبتت بكين كفاءة في إدارة الأزمة وقدرتها على بناء المستشفيات في أوقات قياسية، وكذلك وجود بنية تحتية صناعية متكاملة تستطيع أن تعمل على إنتاج مثل تلك المستشفيات سريعة التجهيز والتركيب، وقد يُمثّل الاستثمار في القطاع الصحي والطبي قطاعا جديدا بالنسبة للشركات العربية، يمكن أن تنجح وتغزو القارة الأفريقية، لا سيما بعد توقُّع ازدياد الطلب الشعبي على التجهيزات الطبية في ظل الأزمات، ما قد يُمثّل نقطة نفوذ جديدة للمستثمرين العرب والأفارقة في القارة الأفريقية.

إنَّ مرحلة ما بعد كوفيد 19 تعتبر مرحلة اختبار وتحدٍّ حقيقي لإفريقيا للنهوض والنمو، حيث تمتلك إفريقيا مقومات طبيعية لمواجهة آثار هذا المرض في ظل إيجاد خطة استراتيجية، تبدأ من بناء نموذج تنموي داخلي قائم على تعزيز الاقتصاد المحلي، لكونه الأكثر تناسبا للحجر الصحي، فالتنمية السيوسيو- اقتصادية تمر حتما عبر تقوية المبادلات بين الإفريقية، وبفضل منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، سيكون بمقدور الأفارقة بناء قارة إفريقية مزهرة وصامدة.