تحليل

دموع ومياه مالحة على الأطلسي

عبد الرحيم الفارسي
في فجر الخامس من نوفمبر 2008 جافى النوم عيني. كنت على موعد مع بدء العمل في السادسة صباحا بتوقيت غرينتش. لكن بدل الخلود للأحلام التي سرعان ما أنساها، ظلت عيناي متسمرتين في شاشة التلفزيون.
لم تكن تلك الليلة عادية عندي، وربما عند مئات الملايين من الأحياء على كوكبنا.
في أرض الأمريكان، كان باراك حسين أوباما، وهو رجل أسود البشرة، يعلَن كأول من يفوز بمنصب الرئاسة من بني جلدته في الولايات المتحدة منذ إعلانها الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1776.
ركزت الكاميرا التي كانت تنقل الحدث بشكل فوري من شيكاغو ، على وجه شيخ أسود أيضا، ثم قربت العدسة عينيه أكثر  فأكثر. فكان أن رأينا دموعا تنهمر من عينيه، ويمكن القول إنني شعرت بحرارتهما.
لم يكن ذلك الشخص سوى المرشح الرئاسي في انتخابات عام 1984 و1988 القس جيس جاكسون.
شعرت بأن هذl الشخص الذي كان من رفاق مارتن لوثر كينغ، زعيم حركة حقوق السود والحريات المدنية Civil Rights Movement، قد حقق حلما ظل دفينا في صدور  السود بأمريكا، كابرا عن كابر، منذ أن اقتيدوا غدرا وعنوة من إفريقيا، ليصيروا عبيدا يعتنون بمزارع السكر والتبغ والقطن في العالم الجديد، قبل أكثر من قرنين.
تحضرني هذه اللقطة وأنا أرى صرخة "لا أستطيع التنفس" التي أطلقها جورج فلويد تتردد أصداؤها هادرة في شوارع الولايات المتحدة وفرنسا، ثم بريطانيا.
عشت في المملكة المتحدة أكثر من عشرين عاما. وغطيت من موقعي الصحفي مئات التظاهرات في شوارع لندن وبرايتون ومانتشيستر. وخلالها كلها لم ألاحظ نزوعا لدى المتظاهرين إلى تحطيم الممتلكات العامة، أو الرموز الفنية والثقافية.
لكن هذه المرة حدث ما خرق هذا الالتزام الضمني.
في مدينة بريستول جنوب غربي انجلترا خرج نحو عشرة آلاف شخص في مظاهرة مناهضة للعنصرية. ولأنه لدى الشعوب القارئة ذاكرة تاريخية، اكتست مظاهرات بريستول طابعا خاصا.
فمن ميناء بريستول التاريخي أبحرت مئات من السفن المتجهة إلى إفريقيا لجلب العبيد منها، ونقلهم في وقت لاحق إلى القارة الأمريكية. كان ذلك يحدث في القرنين السابع عشر والثامن عشر وحتى بدايات القرن التاسع عشر. أي قبل أن يصدر في بريطانيا قانون حظر العبودية (Slavery Abolition Act) عام 1833 .
تغيرت الظروف ومضت السنون والعقود .
في بريستول يحمل عدد من الشوارع والمؤسسات اسم رجل من أبناء المدينة، عرف بأعماله الخيرية. فالوثائق التاريخية تسجل أنه بنى عددا من المدارس والمستشفيات، وقدم مساهمات سخية للفقراء والقضايا الاجتماعية الملحة في مطلع القرن الثامن عشر.
من منا لا يريد أن يخلَّد اسمه ضمن من يسْدون خدمات للإنسانية؟.
أعود إلى شيكاغو، ودموع جيس جاكسون فور انتخاب باراك أوباما. غير بعيد عنه كانت تقف أوپرا وينفري Oprah Winfrey، مقدمة البرنامج التلفزيوني الأكثر مشاهدة في الولايات المتحدة، وربما في العام بأسره آنذاك.
تدنو عدسة الكاميرا من عينيها. فإذا بهذه المرأة المرحة تبكي أيضا.
أسلاف جيس وأوپرا ومئات الملايين من أمثالهم، لم يأتوا إلى القارة الأمريكية غزاة أو مستثمرين أو باحثين عن ظروف عيش أفضل. بل وصلوا عبيدا. يمكن القول إن حظهم كان أقل سوءا من أبناء جلدتهم الذين ماتوا بالأمراض والجوع والمعاملة الحاطة بكرامة الآدميين داخل عنابر السفن التجارية أثناء عبور ها المحيط الأطلسي قادمة من سواحل إفريقيا الغربية.
في ربيع عام 2006 كنت في العاصمة السنغالية دكار. اشتريت تذكرة تبلغ قيمتها حوالي ثلاثة دولارات، وأقلعت على متن عبارة من ميناء المدينة، باتجاه جزيرة صغيرة غوري Goree التي تبعد عن اليابسة ببضعة بنحو كيلومترين.
 ضمن المسافرين على المركب كان أوروبيون بيض، وشابة أمريكية سوداء، ظلت تراقبني بينما كنت أسجل مقابلة مع أحد المرشدين السياحيين. انتظرتْ حتى فرقغت مما كنت أفعل، فدنت مني وسألتني عن المؤسسة الإعلامية التي أشتغل فيها. أجيتها بأنني من BBC لندن، فانطلقت تحدثني عن حلم لطالما راودها منذ أن بدأت تعي الأشياء حولها. عرفت منها أنها قادمة من شيكاغو، وأنها تريد أن تصل الرحم مع أهلها. سألتها إن كان أهلها سنغاليين، فأجابت بأنها تتحدث عن أقارب يعود تاريخهم إلى قرنين أو أكثر...
رسا المركب بنا في مرفأ غوري الصغير، فذهبت رأسا نحو بناية عتيقة بها عدد من العنابر، وبأسوارها لا زالت معلقة سلاسل حديدية صدئة، ويفضي أحد أبوابها مباشرة إلى البحر. قال لي المرشد السياحي إن تلك الفتحة تسمى "باب اللاعودة La porte du non- retour).
تزامنت زيارتي صدفة مع وجود الملكة صوفيا، زوجة العاهل الاسباني السابق خوان كارلوس التي كان يرافقها مسؤولون سنغاليون كبار.
بعد جولة في ربوع الجزيرة الصغيرة التي تئن في سمائها أصوات آلاف ممن تركوا حريتهم في تلك الأرض قبل بضعة قرون، رأيت مجددا الشابة الأمريكية. كانت تقف على حافة جدار مهترئ ترتطم به أمواج الأطلسي الهادرة من جهة الغرب. 
 كان المشهد مؤلما. استدرت نحو المرفأ الصغير تاركا الشابة الأمريكية وقد أخفت وجهها بين كفيها ، وجثت على ركبتها، كأنها تصلي..: أو تتوسل...
عودة إلى مدينة بريستول البريطانية، فقد خرجت المظاهرات المناهضة للعنصرية عن السيطرة. اتجه عدد من المشاركين فيها نحو تمثال برونزي بأحد ميادينها، فتسلقوه، ثم شرعوا في جذبه وجره بطريقة تذكرنا بما فعله الجنود الأمريكيون لتمثال الرئيس صدام حسين وسط بغداد عام 2003.
سقط تمثال بريستول، وجرجره المتظاهرون، إلى أن ألقوه في مياه نهر أڤون Avon الذي يخترق المدينة، ويصب في مياه الأطلسي.
التمثال صنع لتخليد ذِكرِ رجل يدعى إدوارد كولستون Edward Colston الذي عاش بين عامي 1636 و1721.
كوليتون هو نفسه الشخص الذي عرف بأعماله الخيرية وأياديه البيضاء. لكن من أين له بكل ذلك؟. لقد راكم كولستون ثروة كبيرة جناها من تجارته. فماذا كان يبيع ويشتري؟.
لقد كان ضمن أشهر تجار العبيد الذين سيقوا من إفريقيا إلى العالم الجديد. ومن نسل أولئك خرج جيس جاكسون، وأوپرا ونفري، وجورج فلويد، وكذلك الشابة الأمركية التي التقيتها في جزيرة غوري...