قضايا

محلل سياسي مع وقف التنفيذ

سعيد الغماز

كمواطن مغربي مهتم بِقُوتِه اليومي، مؤمن بعلاقة هذا القوت بالأحزاب وقراراتها السياسية، أتابع الحوارات التي يكون فيها ممثلو الأحزاب حاضرين. وكأي مواطن، أكون مع هذا الطرح وضد الطرح الآخر، في انسجام تام مع سياسة مبنية على أغلبية تحكم ومعارضة تراقب.

وحين يكون محلل سياسي بجانب ممثلي الأحزاب، أنتظر كأي مواطن أن أسمع نقاشا يعبر فيه كل حزب عن مواقفه، ويتدخل المحلل السياسي لتنوير المستمع بأفكار جديدة وتحاليل مُقَارِنة، بعيدة عن التقاطب السياسي الذي هو من اختصاص الأحزاب وهو أمر طبيعي، وإلا فإن الحزب سيكون بعيدا عن ممارسة قناعاته السياسة.

أكون كأي مواطن، أنتظر من المحلل السياسي أن يكون قيمة مضافة في الحوار، ترفع من مستوى النقاش، وتُساعدني على الفهم الصحيح لمقترحات ممثلي الأحزاب؛ فالمحلل يعتمد على آليات علمية في النقاش، يتحرى الموضوعية في الحوار، ويستعمل أداة المقارنة مع تجارب في الأقطار الأخرى، أمور كلها تجعل من الجلسة الحوارية مفيدة وفيها تكوين وأفكار جديدة، في حين ممثل الحزب السياسي يسير بالنقاش في وجهة طرح الحزب، ويدافع عن أطروحته السياسية وإن أثبت الواقع خطأها. وحتى إن أراد ممثل الحزب السياسي تحري الموضوعية، نجده يستعمل أسلوب "نعم ... ولكن". ليس هذا نقدا للأحزاب، وإنما توصيفا لممارسة سياسية في بلدنا تراكمت منذ عقود كثيرة.

لكننا أصبحنا في الآونة الأخيرة نجد أن الحوارات السياسية في جميع وسائل الإعلام أو وسائط التواصل الاجتماعي يحضرها محللون سياسيون لا نميز خطابهم عن باقي الأحزاب، وكأنهم يحضرون بصفة المحلل السياسي وهم في حقيقة الأمر يمثلون حزبا لا نعرفه.

حين تغيب الموضوعية، وتغيب آليات التحليل، وتنعدم أخلاقيات الحوار، فإننا بالتأكيد نكون أمام كل شيء إلا المحلل السياسي. وما يزيد الأمر لخبطة هو حين يتقدم المحلل السياسي باسم ثلاثي يتضمن اللقب والاسم ويضيف مدير مركز للأبحاث في مجالات عامة. مركز لا يعرف فيه المواطن المتتبع للشأن العام إلا مديره، ولم يسمع قط بأي إصدار باسم المركز أو دراسات يمكن أن تساهم في إثراء النقاش. وربما مرد ذلك إلى كون رئيس المركز متفرغ للحوارات السياسية حيث المنابر الإعلامية هي مسكنه الثاني، وبالتالي فلا وقت له للإنتاج المعرفي والتدوين النظري والابداع في التحليل السياسي.

إلى هذا الحد قد يبدو الأمر طبيعيا، لكن حين ينضاف اسم رابع للمحلل السياسي وهو "أستاذ جامعي"، فنحن نكون أمام كارثة علمية تقتحم أسوار الجامعة برداءتها وقناعها غير الواضح. حين تجد محللا سياسيا يُردد على مسامع المواطنين أنه يتحدث بصفة المحلل والأستاذ الجامعي، ويكرر هذه العبارة وكأنه يشعر بالحرج حين يمرر مواقف سياسية بشكل بشع ومفضوح، يعرف المواطن أنه أمام ممثل حزب لا يعرفه، يحتقر ذكاءه، ويستعمل قناعه، لتمرير مواقف، لا أقول سياسية، وإنما حزبية، في تلاعب تام بثقافة الحوار.

بهذا يجد المتتبع نفسه أمام ممثلين للأحزاب يتحدثون بصفتهم الحزبية في وضوح تام قد يخالفهم المتتبع في الرأي لكن يحترم فيهم الوضوح. وبجانبهم نجد ممثلا لحزب لا يعرفه المتتبع ويقدم نفسه كمحلل سياسي، مما يجعله فاقدا للوضوح مبهما في التحليل، ويُنصب نفسه مع حزب ضد حزب آخر، مع تكرار عبارة "أنا أتحدث كمحلل سياسي"، في احتقار تام ليس للمتتبع وإنما له شخصيا.

بل أكثر من هذا، نجد بعض ممثلي الأحزاب الذين يحملون صفة الأستاذ الجامعي، يبتعدون في كثير من الأحيان عن قبعة الحزب ويطرحون تصورات المدارس الفكرية والتجارب العالمية لمقارنتها مع الواقع المغربي، ربما لرفع مستوى النقاش وتفادي رداءة تدخلات من نصفه تجاوزا بالمحلل السياسي، فيصير المتتبع للحوارات السياسية أمام صورة مقلوبة يكون فيها المحلل السياسي ممثلا لحزب مبهم، وممثل الحزب السياسي يصير محللا سياسيا يتحرى الموضوعية ويهرب بالنقاش إلى مستوى يترفع عن الهبوط الرديء الذي أصبح في أيامنا هذه عملة رائجة في أغلب الحوارات السياسية.

في الأخير، أصبح المواطن المهتم بالشأن العام يخاف انقراض مهنة المحلل السياسي من المشهد الإعلامي ليحل مكانه ممثل حزب مبهم بقناع محلل يتحدث في كل شيء إلا التحليل السياسي. هكذا يمكن أن يكون المواطن أمام محلل سياسي مع وقف التنفيذ إلى حين انتهاء فترة الإعداد للانتخابات المقبلة.