قضايا

لنتسلح بالأمل

د. علي شعباني

الأوبئة، جمع وباء، وهو الجائحة التي ترعب العالم وتهدد حياة البشر وتأخذ في طريقها الآلاف بل الملايين من الأرواح البشرية.
لكن وكما هو معروف، وعبر تاريخ البشرية الطويل، لم تقتل الأوبئة الحضارات، ولم تقوض عزائم الانسان. فكم من وباء أخطر من فيروس كورونا الحالي عرفته الأمم، ولكن مرت كالسحاب، رغم ما تخلفه من مآسي وأحزان، ولكن الحياة عاندت واستمرت، والأرض عمرت والمدن توسعت وأماط العيش تطورت والنسل تضاعف. وتمر الأوبئة ويبقى الانسان، لأن له عقل يفكر وإرادة صلبة يقاوم بها، وبهما معا يواجه كل الأخطار ويتغلب على الكوارث الطبيعية ويقاوم الأمراض والأوبئة.
وعندما نعود لقراءة بعض فصول تاريخ البشرية مع الأمراض والأوبئة ، نجد بأنها مرت بامتحانات عسيرة، وكل الحضارات عرفت اوبئة فتاكة،مرعبة ومخيفة.صحيح انهااثرت على الحياة فيها، بل من هذه الأوبئة من غيرت وجهة التاريخ وصححت الرؤى وأعطت انطلاقات جديدة لميادين ساعدت على مواصلة المسير بعزم وثبات، وبناء حيوات اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة. وأكبر دليل هو ما توصلت إليه المجتمعات الراهنة من تقدم وتطور.
في كتب التاريخ التي أرخت للأوبئة والأمراض عبر التاريخ، نقف عند أخطرها وأقواها فتكا بالبشر، ومن بينها وباء جوستنيان الذي ضرب بلاد الاغريق عام 430 ق م، والذي قتل ما يزيد عن ثلاثين مليون شخص، أي حسب تقديرات المؤرخين آنذاك، نحو نصف سكان العالم في تلك الحقبة. وكان هناك ما يطلق عليه الموت الأسود الذي أتى على أكثر من 25 مليون شخص في أوربا ما بين سنتي 1347 و 1351.  ووباء الجدري الذي قضى في القارتين الأمريكيتين عام 1492 على ما يزيد عن عشرين مليون شخص. أما وباء الكوليرا الذي ضرب الهند بين عامي 1817 و1821 ألحق بالهند خسائر كبيرة في الأرواح. وفي مغرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عرف أوبئة فتاكة كالطعون والكوليرا والجدري والسل قضت على قرى بكاملها وافرغت العديد من المناطق من سكانها.
أما حديثا، لازال الكثير من الناس يتحدثون عن ما خلفتة الأنفلونزا الاسبانية ما بين 1918 و1920 من قتلى قدروا بأزيد من 25 مليون شخص. بل هناك من يتكلم عن ضعف هذا العدد. وأنفلونزا هونغ كونغ عامي 1968 و1970 فقد خلفت ما يزيد عن مليون قتيل. هذا وصولا لإلى ما عانته البشرية سنة 2005 مع أوبئة جديدة من قبيل أنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير والجمرة الخبيثة وجنون البقر... الخ. وفي سنة 2013 اهتز العالم لوباء تفشى في القارة الأفريقية، أطلق عليه نعت  إيبولا الذي تسبب في موت أزيد من إحدى عشر ألف من الضحايا.  ولم يتم القضاء على زحف إيبولا إلا سنة 2018، لكن ليظهر سنة 2019 وباء جديد أخطر أطلق علية نعت كوفيد 19 سببه فيروس كورونا المستجد، الذي أرعب العالم الحديث وانتشر سريعا في كل قارات العالم اليوم.
كورونا فيروس 2020
اجتاح وباء كورونا فيروس أو ما يطلق عليه اسم كوفيد 19 العالم. وانتشر بسرعة مخيفة بين مختلف دول العالم وفرضت  الدول التي دخلها هذا الوباء حجرا صحيا كلي أو جزئي على سكانها، وعم الخوف والهلع والارتباك بين الناس، فكثرت التعليقات والتحذيرات والتركيز على خطورة الوباء والالتزام بالبيوت وضرورة احترام مقتضيات الحجر الصحي.
خطورة هذا الوباء تكمن في سرعة انتشاره ومدة كمونه وتستره قبل أن يكشف عن أعراضه عند المصابين بالفيروس. وقد يتحول إلى عدو قاتل. و الأخطر من كل هذا هو أنه لا يفرق بين أحد، فقد يصيب الصغير في السن كما قد يفتك بالمسن، لا يميز بين الجنسين ولا يبالى بالفوارق الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الفوارق الطبقية أو مستوى التحضر. يتجول بحرية في السماء وفي الأرض ويوجد حيث تصل يد الانسان  لمسا أو مصافحة أو تقبيلا أو عناقا أو اختلاطا عشوائيا أو غير منظم أو ما شابه ذلك.
كل مظاهر السلوك هذه كانت متاحة في عصر العولمة هذا. فالعناق لم يعد يكتفي بقبلة أو قبلتين، بل صارت أربعة أو أكثر، والتشابك باليدين تعدى أدب المصافحة ليصل إلى أبعد من ذلك. أما الالتصاق المرضي في الحافلات وفي كل مكان يعرف ازحاما لم يعد يضايق أحدا، والازدحام أصبح سنة مؤكدة، لا طوابير ولا نظام ولا أي اعتبار لا لكبار السن ولا للمرة الحامل. فجاءت كورونا  لتعيد ترتيب الكثير من العادات السيئة  والسلوكيات المتجاوزة ولتهذب الأخلاق  وتحيي في أنسان اليوم مجموعة من القيم الأخلاقية والاجتماعية والاستهلاكية ، الفردية والجماعية التي كادت تنقرض.
وفي خضم هذه الأزمة التي تمر بها مجتمعات العصر الراهن، استيقظ الناس على تحليلات ودراسات بعض الباحثين التي تشير إلى أنه بعد تجاوز هذه المحنة سيكون هناك ، ولا شك، بداية لعهد جديد ستراجع فيه وطنيا ودوليا الكثير من التعاقدات والتحالفات على المستوى الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي وحتى الثقافي والعلمي والاجتماعي والسلوكي . ستظهر ثقافة جديدة، وهي ثقافة ما بعد كورونا فيروس، ستشمل كل ما يدخل  في إطار علاقات القرابة والصداقة والزمالة والعمل، وكل ما يهم الروابط الاجتماعية.
سيتخلى الناس تدريجيا عن كثير من العادات والممارسات التي أصبحت مضارها مكشوفة ومساوئها بادية للعيان، وحتى فيما يتعلق بالمأكل والملبس والنظافة وتدبير الوقت الحر وتنظيم الحفلات العائلية والاجتماعية والمهرجانات الوطنية والدولية، وطرق التعلم والبحث عن المعلومات وتطوير الدراسة والتعلم عن بعد... الخ. سيعود المجتمع اقوى من السابق ستتقوى وحملات التضامن والتكافل الاحتماعي  والتعاون، وربما في حلل جديدة ومبتكرة. من دون شك سيعاد الاعتبار لكل ماهو عمومي وعلى رأس هذه القطاعات الصحة والتعليم والتشغيل والاستثمار العمومي.
كورونا فيروس درس قاس تتلقاه اليوم كل المجتمعات بما فيها تلك المجتمعات التي كانت تعتد وتعول على اقتصادها القوي وتقدمها الصناعي وتفوقها التكنولوحي واحتكارها للعلم والمعرفة والمعاومات.هي الآن أصبحت عارية أمام هذا الوباء، بل تضررت أكثر مما تتضرر منه المجتمعات المغلوبة على أمرها وتفتقر تقريبا إلى كل شيء.
أمام تفاقم وباء كورونا فيروس لم تجد كل المجتمعات المتضررة غير الطبيب والممرض والاستاذ والباحث، وكل هؤلاء ينتسبون إلى قطاعات الدولة العمومية التي طالها التهميش والاهمال وأحيانا الاحتقار في عصر العولمة.
نرجو الرجوع للمراجع التالية:
1 - جون شارل سورنيا: تاريخ الطب ترجمة : ابراهيم الجيلاني
منشورات عالم المعرفة . عدد 281 الكويت 2002
2 - أسية بنعدادة: المعرفة الطبية وتاريخ الأمراض في المغرب
منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية . ألرباط 2013
3 - زكريا الابراهيمي: الصحة والمجتمع. دراسة سوسيولوجية للصحة والمرض بالمجتمع القروي في المغرب
   منشورات المطبعة الوطنية . الدار البيضاء 2016
4 - محمد الأمين البزاز: تاريخ المجاغة والأوبئة في المغرب خلال القرن الثامن عشر  والتاسع عشر:
منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط 1992
5 - الحسين الفرقات: أقوال المطاعين  في الطعن والطواعين للعربي المشرفي: أطروحة الدكتوراه في التاريخ . كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط 2004،
6 - عبد العزيز بن عبد الله: الطب والأطباء في المغري. الرباط 1960.