مجتمع وحوداث

متى نقتنع بالعيادة النفسية؟!

عبد اللطيف مجدوب

إنّ الاقتناع بالحاجة إلى العيادة النفسية أو الاستشارة النفسية ليس مجرد خطوة علاجية، بل هو اعتراف بعبء حقيقي وواسع الانتشار في المجتمع المغربي، تؤكده الأرقام والدراسات الرسمية. يظلّ نكران الأزمة النفسية هو الأخطر لأنه يحول دون طلب المساعدة، ما يزيد من تفاقم المشكلات النفسية والاجتماعية.

 انتشار الاضطرابات النفسية في المغرب (إحصائيات صادمة)

تُظهر الدراسات والمسوح الوطنية التي أجرتها جهات رسمية مغربية، مثل وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE)، مستويات مقلقة لانتشار الاضطرابات النفسية بين المغاربة:

 * نسبة الانتشار العامة:

   * أفادت دراسة رسمية للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE)، بناءً على المسح الوطني للسكان فوق سن 15 سنة، أن حوالي 48.9% من المغاربة عانوا أو سبق لهم أن عانوا من اضطراب نفسي أو عقلي في فترة من فترات حياتهم.

   * تتباين هذه النسبة مع تصريحات سابقة لوزارة الصحة أشارت إلى أن حوالي 17% من المغاربة يعانون من مشاكل نفسية، مما يعكس الحاجة لمزيد من التحيين وتوحيد المنهجيات.

 * أكثر الاضطرابات شيوعاً:

   * يأتي الاكتئاب على رأس الاضطرابات الأكثر شيوعاً، حيث يعاني منه ما يقارب 26% من المغاربة الذين تفوق أعمارهم 15 سنة (حسب مسح وطني لوزارة الصحة).

   * يعاني حوالي 9% من اضطرابات القلق، وحوالي 5.6% من اضطرابات ذهنية، و1% من مرض الفصام (الذهان).

   * تشير التقديرات إلى أن مليون مغربي يعانون من الرهاب الاجتماعي، و2.7 مليون يعانون من اضطراب القلق العام.

 أزمة العرض الصحي ونقص الموارد البشرية

في مواجهة هذا الانتشار الهائل، يظهر قصور كبير في توفير الرعاية الصحية النفسية المتخصصة:

 * نقص الأطباء:

   * يبلغ عدد الأطباء النفسيين في المغرب حوالي 454 طبيباً نفسياً (إحصاءات قريبة الحين)، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بعدد السكان، ويعكس نقصاً هائلاً مقارنة بالتوصيات العالمية.

 * الطاقة الاستيعابية الضعيفة:

   * لا يتعدى عدد الأسِرّة المخصصة للعلاج النفسي في المغرب حوالي 2431 سريراً (أو أقل قليلاً حسب بعض التقارير)، موزعة على عدد محدود من المستشفيات المتخصصة (حوالي 10 مستشفيات متخصصة، أو 36 مؤسسة استشفائية لديها وحدات نفسية).

 * ضعف الاستثمار:

   * لم تتجاوز مخصصات الدولة للصحة العقلية في الميزانية خلال عام 2021 سوى 2% من إجمالي ميزانية الصحة، مما يعكس ضعف الاستثمار في هذا القطاع الحيوي.

 انعكاسات الظواهر السيكولوجية (الحياة اليومية)

هذه الأرقام الهائلة للمرضى النفسيين تؤكد أن الظواهر السيكولوجية المؤرقة التي نراها يومياً ليست مجرد سوء سلوك عابر، بل هي أعراض لأزمة نفسية عميقة تتجسد في:

 * تضخم الأنا ورفض النقد، والاندفاع وخرق القانون، والعدوانية اللفظية (استعمال بوق السيارة لأتفه الأسباب).

 * الأسرة كمكب للضغوط: استخدام الأسر كـمكب لتفريغ الطاقات السلبية وما ينتج عنه من صراخ وشجار وعنف، مما يغذي قضايا محاكم الأسرة التي تعجّ بالخلافات العائلية المتفاقمة بسبب سوء إدارة الغضب والضغط النفسي.

 من سيقنع المواطن بمرضه النفسي؟!

الاقتناع بالعيادة النفسية في المغرب يتطلب كسر الوصم الاجتماعي (Stigma)، الذي يدفع الكثيرين لإخفاء معاناتهم والاعتماد على الحلول غير العلمية. إنّ حجم المشكلة يتطلب:

 * اعترافاً رسمياً واضحاً بحجم الأزمة وحاجتها للاستثمار.

 * حملات تثقيفية مكثفة تهدف إلى نزع صفة "الجنون" عن الاضطرابات النفسية، وتقديم العلاج النفسي كـحق أساسي وخدمة ضرورية.

 * زيادة فورية في الكوادر الطبية والأسرّة المتخصصة لتلبية الطلب المتزايد على الرعاية.

إنّ اللحظة التي يجب أن نقتنع فيها بالعيادة النفسية هي لحظة ظهور أي من تلك الاضطرابات أو السلوكيات المؤرقة في حياتنا، أو عند الاطلاع على هذه الأرقام التي تؤكد أننا جميعاً معرضون للخطر.