منذ الإعلان عن التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة والتكهنات تتواصل بشأن استمراره من عدمها ولا سيما من الجانب الاسرائيلي الذي لا يكف عن التهديد بالعودة إلى الحرب إذا لم تحترم حركة حماس بنود الاتفاق، وكأنه لم يشبع من سفك دماء المدنيين ومن ارتكاب جرائم الإبادة التي جعلته ملاحقا بامتياز من طرف المحكمة الجنائية الدولية. وقد شكلت هذه الحرب حدثا مفصليا في مواقف الدول، بحيث اصطفت الشعوب إلى جانب عدالة القضية الفلسطينية ونادت بحق الشعب الفلسطيني في الحرية وإقامة دولته، بينما كانت حكومات الدول لا سيما الغربية تسابق الزمن لتعبر عن مساندتها الكاملة للكيان الإسرائيلي. من جانب أخر كان هناك تحرك متصاعد أمام محكمة العدل الدولية قادته جنوب إفريقيا وأثمر عن قرارات تأمر إسرائيل باتخاذ كل التدابير لمنع الأعمال المندرجة ضمن اتفاقية الإبادة الجماعية (1948). ورغم انضمام دول أخرى (نيكارغوا وكولومبيا وليبيا والمكسيك إلى القضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، لم تأبه إسرائيل بالأحكام الأولية الصادرة عن المحكمة، وواصلت عدوانها السافر على قطاع غزة قصد تحقيق أهداف الحرب التي رسمتها منذ البداية وهي إعادة الرهائن والقضاء على حماس والسيطرة على كامل القطاع، لكنها لم تتمكن من تحقيق أي من هذه الأهداف رغم استهداف قادة الحركة والقيام بالإبادة الجماعية والدمار الكبير خاصة في شمال القطاع والذي صدم من هوله كل من عاد إليه مع دخول المرحلة الأولى من الهدنة حيز النفاذ.
اتفاق الهدنة
كانت إسرائيل تنتظر إنهاء الحرب غير المتكافئة لصالحها والقضاء نهائيا على فصائل المقاومة في غزة. لكن لم يحدث هذا الشيء، بل اضطرت إلى قبول إبرام صفقة تبادل الأسرى بينها وحركة حماس. ويرجع الفضل في ذلك إلى جهود الوساطة التي قامت بها قطر والولايات المتحدة ومصر، وإلى تزايد الضغط داخليا من أسر الأسرى، وخارجيا من الإدارتين الأمريكيتين الجديدة مع ترامب والمنتهية مع بايدن الذي إراد إنهاء حياته السياسية بإنجاز الصفقة ولو أنه ساهم بشكل أو بآخر في ارتكاب جرائم الإبادة في غزة برفقة وزير خارجيته بلينكن الذي دخل التاريخ بشهادة مستحقة كمجرم حرب مشارك في إبادة المدنيين ودمار غزة. كذلك، وبالرغم من أن أمريكا لعبت دور الوساطة، لكنها في الحقيقة ساهمت في الحرب بأشكال مختلفة من تزويد السلاح وتجريب كل الأسلحة الجديدة والوقوف إلى جانب الكيان الإسرائيلي والدفاع عنه وتلميع صورته في المحافل الدولية ومنع صدور قرارات دولية تدينه وتوقف المجازر المرتكبة في غزة بأسلحة أمريكية، وفي نفس الوقت كانت تظهر للجانب العربي الرسمي أنها مع حل الدولتين وأنها تعمل من أجل إنجاز صفقة تحرير الرهائن وإدخال المساعدات إلى غزة.
حق العودة ومحاولات التهجير
إن صور جموع العائدين والعائدات من الفلسطينيين إلى ديارهم في شمال قطاع غزة، تعبر لوحدها عن مدى تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه ورفضه التام لكل أشكال الترهيب والإرهاب التي تمارس ضده للرحيل وللعيش مجددا نكبة جديدة وترك أراضيه للإسرائيلي الذي لم يفلح في اقتلاعه من جذوره رغم فظاعة الجرائم المرتكبة في حقه من إبادة وتطهير عرقي ودمار. نعم صور يوم 27 يناير 2025، تحكي لوحدها جانبا من ممارسة حق العودة الذي يتمسك به الفلسطينيون منذ سنة 1948، ويتجسد في فصول التغريبة الفلسطينية في المخيال الفلسطيني والوعي بالهوية الوطنية واستمرارية الحياة الاجتماعية الفلسطينية كما كانت قبل النكبة، وما حمل المفاتيح -أينما حلوا- في المخيم، في المنفى، على أمل العودة إلى الوطن، إلا تعبير صريح عن رفض المشروع الصهيوني ومقاومته بكل الطرق والوسائل. حق العودة هو حق ثابت غير قابل للتصرف ولا يسقط بالتقادم تضمنته الكثير من القرارات الأممية بداية مع قرار الجمعية العامة رقم 194 الصادر بتاريخ 11 ديسمبر 1948، المتعلق بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض (مع وليس أو التعويض)، وبعده جاء قرار الأمم المتحدة رقم 2649 الصادر بتاريخ 30 نوفمبر1970 ليعالج معاناة الفلسطينيين ليس من زاوية ضيقة كلاجئين، وإنما من خلال التعامل مع قضية شعب له حق قانوني ثابت في تقرير مصيره. وبفضل قرار الجمعية العامة رقم 2672 الصادر بتاريخ 8 ديسمبر 1970 تم تأكيد الاعتراف للشعب الفلسطيني (وليس للاجئين الفلسطينيين كما كان متداولا) بحق تقرير المصير. ورغم أن اتفاقات أوسلو (1993) استندت إلى قراري الأمم المتحدة 242 (1967) و338 (1973)، فإنها لم تستطع إحلال السلام كما تم الاتفاق عليه ضمن مرحلتين انتقالية ونهائية، بحيث انتهت الأولى سنة 1999، وكان من المفروض أن تنطلق بعدها مفاوضات الوضع الدائم حول قضايا الحدود والقدس وحق العودة، ولكن تعثرت وظل الوضع معقدا مع وجود سلطة فلسطينية ذات سلطات محدودة، مما أدى إلى تضاعف المستوطنات وتقليص أراضي الضفة الغربية التي تم تقسيمها ضمن مناطق (أ-ب-ج) وتخضع منطقة ج - 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية- بشكل كامل لسيطرة إسرائيلية مدنية وعسكرية. منذ ذلك الحين، ازداد تعنت الكيان الإسرائيلي مدعوما أمريكيا بعدم الالتزام باتفاقات أوسلو بحيث اقتصر التطبيق فقط على مستوى التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية. ونجد تفسير ما حدث ويحدث من اقتحامات للجيش الاسرائيلي للعديد من بلدات ومدن الضفة الغربية في مواطن الخلل وميل كفة الاتفاق إلى الجانب الاسرائيلي التي تهيمن على مضامين البنود التي دخلت حيز التنفيذ وخدمت المصالح الاسرائيلية أكثر وجعلت مهام السلطة الفلسطينية تنحصر في الإدارة المحلية والتنسيق الأمني كما توافق عليه إسرائيل.
ورجوعا إلي الجموع الغفيرة من النازحين التي قررت العودة (عبر شارع الرشيد بالنسبة للمشاة وعبر شارع صلاح الدين بالنسبة للمركبات) إلى ديارهم في شمال قطاع غزة الذي تم عزله عن باقي المناطق منذ بداية العدوان، فهي تعبر عن رفضها الشديد لمخططات الترحيل ولو كان بشكل مؤقت إلى مصر والأردن كما دعا إلى ذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. يفضل أهل غزة البقاء في أرضهم بالرغم مما أصابها من دمار بسبب حرب الإبادة التي قام بها الجيش الإسرائيلي (خطط الجنرالات) بحيث لم يترك مكانا صالحا للحياة، معتقدا أنه بذلك سيقضي على أمال فلسطينيي غزة ويرغمهم على الرحيل والهجرة. فكانت المفاجأة أن هب الكل نحو الشمال، دون مبالاة بالعقبات، فقط التمسك بالأرض كان حافزا لمواجهة القصف والمدافع وقنابل الإبادة. فدمار غزة ترجم الحقد الدفين وانعدام الإنسانية وتعالي جيش الاحتلال ليس فقط على الفلسطينيين إنما على باقي شعوب العالم وكشف المعدن البشع للمحتل الاسرائيلي خاصة في تعامله المتعجرف والإجرامي.
أهداف الحرب غير المحققة
حين شن الكيان الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، اعتقد حينها أنه قادر على تدمير قدرات حركة المقاومة الفلسطينية وتحرير الرهائن والعودة إلى وضع أكثر قوة خاصة وأنه حصل على دعم دولي غير مسبوق من دول اوربية (ألمانيا٠انجلترا-فرنسا) ومن الولايات المتحدة الأمريكية. وقد رددت هذه الدول الأطروحة الإسرائيلية لما حدث يوم السابع من أكتوبر دون ربطها بحالة الحصار الذي كان القطاع يعاني منه وبسياسات الضم التي ينهجها الاحتلال تجاه الأراضي الفلسطينية وبالعزم على تصفية القضية الفلسطينية عبر مشاريع التطبيع مع الدول العربية لاسيما المؤثرة في القرار العربي. هكذا، تم إعطاء الضوء الأخضر للكيان الإسرائيلي لكي يباشر عدوانه على كامل القطاع وتم تزويده بكل الأسلحة والعتاد العسكري والدعم المالي والإعلامي، بحيث ألغت المنابر الإعلامية الغربية كل صوت يشير إلى الحق الفلسطيني في المقاومة ومواجهة المحتل، ورددت فقط الاطروحة الإسرائيلية وكل من يعارض هذا التوجه يتهم بمعاداة السامية. ونتيجة هذا الانحياز الغربي، دخل الجيش الإسرائيلي في حالة من جنون العظمة بحيث لجأ إلى استعمال كل الأسلحة حتى المحرمة منها دوليا ضد كل من يتحرك أو لا يتحرك، يقاتل أو لا يقاتل في القطاع. لم يستثن أي مكان أو شجر أو ماء من خططه الحربية، دمر البنايات على رؤوس ساكنتها، حاصر المستشفيات واستهدفها بنيران ألياته وقتل العاملين في الصحة وأجبر الأطباء على ترك مرضاهم واعتقلهم غدرا (صور مدير مستشفى كمال عدوان حسام أبو صفية لازالت عالقة بالأذهان)، منع دخول المساعدات الإنسانية، وتمادى في قصف المربعات السكنية وتدمير البنى التحتية ومسح عائلات بأكملها من السجل المدني. الأرقام مخيفة وثقيلة بحيث أن أكثر من نصف سكان قطاع غزة قد استشهد أو أصيب، إلى جانب ما حصل لمدن القطاع وأحيائها التي أصبحت -في أغلبها- منكوبة وكأن زلزالا عظيما قد ضربها. شمال القطاع تم محوه من خارطته وقد صدم من عاد إليه -بعد إعلان وقف النار- من هول الدمار وتغيير معالمه وتسطيح بناياته. وحتى في حالات الكوارث الطبيعية تهب الدول إلى عرض مساعداتها للدولة المنكوبة، لكن غزة ودمارها جعل الكل يتفرج وينتظر الحصول عل إذن من الكيان الإسرائيلي، مع العلم أن هناك قرار رقم43 131/ تبنته الجمعية العامة بتاريخ 8 ديسمبر 1988 تدعو فيه الدول إلى فتح ممرات إنسانية لإيصال المساعدات الضرورية لضحايا الكوارث الطبيعية والنزاعات الداخلية والدولية.
يمكن القول أن الكيان الإسرائيلي لم يستطع تحقيق أهداف الحرب التي أعلنها على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، وذلك أنه لم يصل إلى أماكن احتجاز الرهائن ولم يحررها، كما أنه لم يتمكن من تدمير قدرات المقاومة الفلسطينية المقاتلة التي كبدته -في الأيام الأخيرة قبل التوصل إلى اتفاق التبادل- خسائر هائلة في أرواح جنوده من خلال الكمائن المركبة والمحكمة التي جهزها مقاتلو القسام ونفذوها ضد قوات الاحتلال. ربما كانت هذه الخسائر أحد الأسباب التي أضعفت الكيان الإسرائيلي وجعلته يعود إلى طاولة المفاوضات ويقبل في النهاية بصيغة الاتفاق.
جرائم الإبادة
بعد مدة طويلة (471 يوم) من الحرب على غزة بدون توقف، لم يترك الكيان الإسرائيلي أي سلاح ولا أي طريقة إلا وقام بتجريبها على مرأى ومسمع العالم المتحضر وفي أغلبيته صامت لا يستطيع إبداء رأي أو يخالف ما يفرض عليه. الغرب الذي عاش وذاق ويلات حربين مدمرتين، استقال أخلاقيا بغضه الطرف عما يرتكبه الجيش الإسرائيلي من جرائم يندى لها جبين الإنسانية في حق أطفال ونساء قطاع غزة. جرب كل الخطط الحربية ولم يلفح في تحقيق هدف واحد من الأهداف التي وضعها ليلة غزو غزة حين كان قادته يتوعدون ويهددون بالقضاء على فصائل المقاومة وتدمير القطاع وإعادة احتلاله وتحرير الرهائن. وخطة الجنرالات كان الغرض من تطبيقها في شمال القطاع تهجير سكانه وعزله عن باقي المناطق، وذلك بمضاعفة القصف الدموي بشكل متواصل وتشديد الحصار من خلال منع تام لإدخال الغذاء والماء والأدوية.
وينظر إلى حرب الإبادة التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة كانتهاك سافر لمقتضيات اتفاقية (1948) الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. فمن بين ما تضمنته هذه الاتفاقية، نجد تعريفا شاملا للإبادة الجماعية وتحديدا مفصلا للعناصر المكونة لها. فالإبادة الجماعية هي جريمة ترتكب في أيام السلم أو الحرب، ويصنفها القانون الدولي أنها جريمة يجب معاقبة مرتكبها وحث الدول على التعهد بمنعها. تتكون عناصر الإبادة الجماعية كما جاءت في المادة الثانية من الاتفاقية من الأفعال التي تهدف إلى التدمير الكلي أو الجزئي (القتل وإلحاق الأذى الجسدي أو المعنوي وتدمير الظروف المعيشية) لجماعة ذات طبيعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية. وتدخل جرائم الإبادة ضمن اختصاصات المحكمة الجنائية الدولية، وبناء على ذلك، تم توجيه الاتهام من طرف المدعي العام كريم خان إلى قادة الكيان الإسرائيلي وأصبحت ملاحقتهم جنائيا أمرا ضروريا لكل ما ارتكبوه من جرائم الإبادة في حق غزة وأهاليها.
من جانب آخر، استخدم الكيان الإسرائيلي الأطنان من القنابل المحرمة دوليا والأسلحة الفتاكة، في استهدافه للسكان المدنيين والمواقع المدنية، دون أدنى تمييز بينهم ومقاتلي فصائل المقاومة الذين تسري عليهم مقتضيات البروتوكول الأول المضاف لاتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949 والذي تم التوقيع علية سنة 1977 بهدف حماية مقاتلي حركات المقاومة المناهضة للاحتلال أي حركات التحرر الوطنية ومعاملتهم كأسرى حرب في حال وقوعهم في الأسر. في حين يظل السكان المدنيون يتمتعون بحماية الاتفاقية الرابعة لجنيف (1949)، وتقوم القوة المحتلة بتقديم الحماية الكاملة لأشخاصهم وممتلكاتهم. بالنسبة لقطاع غزة، فإسرائيل هي قوة احتلال، وبدل حماية السكان المدنيين من نيران الحرب، كانت تستهدفهم مباشرة بنية الإبادة والترويع ودفعهم إلى ترك منازلهم وتدميرها بعد ذلك. زد على ذلك عدم حماية المنشآت المدنية مثل المستشفيات التي كانت تحاصرها وتقوم باعتقال طواقمها الطبية والإدارية والمرضى دون أدنى تمييز بينها ومواقع فصائل المقاومة المقاتلة وفقا لما ينص عليه القانون الدولي الإنساني.
مجمل القول، وفي ضوء انتقال الحرب من غزة إلى الضفة الغربية، -وخاصة بعد سريان الهدنة- واتساع رقعتها بشكل كبير في مناطق عدة مثل مخيم جنين الذي نسفت فيه قوات الاحتلال أحياء سكنية وقامت بترحيل سكانه، يبدو أن الحرب مستمرة بنفس الأسلحة وبنفس الطرق (الأرض المحروقةـ الترويع- تجريف الطرق- حصار المستشفيات...). وكل هذا يحدث والمجتمع الدولي عاجز كليا عن ردع الكيان الإسرائيلي من مواصلة حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني. لكن يبقى الأمل حاضرا مع تأسيس «مجموعة لاهاي» من طرف مجموعة من دول الجنوب العالمي (ولا دولة عربية بينهم) للتصدي للانتهاكات الفظيعة للقانون الدولي وخاصة القانون الدولي الإنساني التي قامت وتقوم بها إسرائيل في غزة والضفة الغربية، ولتعزيز ما تم القيام به قضائيا أمام محكمة العدل الدولية والقيام بخطوات عملية بشأن إنهاء الاحتلال الاسرائيلي وجرائمه ضد الإنسانية ودعم الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.