رأي

منعم وحتي: ضد تبييض سيرة السواد.. دفاعا عن "المزلوطين"..

إن من أهم المراحل المفصلية في حياة عصابات المافيا والكامورا الإيطالية، ليست تلك المتمحورة حول العملية الإجرامية في حد ذاتها، بل الأساسي هو التمكن من التبييض الكامل للأموال الضخمة المترتبة عن الجريمة المنظمة، قصد ضخ رساميلها في قنوات نظيفة لتدويرها في شرايين الإقتصاد المنظم، وخصوصا ضمان قطع الصلة مع منبع الأموال المتسخة، حين ذلك يطلق عليها الجريمة الكاملة فعلا. وسِيرةُ الاموال كسِيرةِ الأشخاص، هناك آلات جهنمية تشتغل لتبييض مسارهم وتلميعهم بالقَطْعِ مع ماضيهم الدموي والوَسِخ.

أعترف أنني ازددت وملعقة من ذهب في فمي، ليس لأن أسرتي تملك ثروات موروثة أو أقبية كنوز، لكنني فتحت عيني طفولتي على جبال من الكتب تحكي تاريخ الإنسانية، من مكتبة والدي، إلى درجة أنك يمكن أن تكون نائما ليسقط عليك ركام من الكتب من هنا أو هناك، وتصبح ضحية لسقوط مكتبتك على رأسك كما وقع للجاحظ ذات زمن، ومن حسن حظي أيضا أن فتحت عيني على شخصيات كبيرة في فناء بيوت طفولتي وشبابي، من طينة : أحمد بنجلون، عبد الرحمان بنعمرو، بوكرين محمد، يزيد البركة، عمر منير، عواد علي، محمد بنراضي، محمد وحتي.... بقدر ما تعلمت منهم سمو القيم الإنسانية والحقيقة، وتربيت بين ظهرانيهم على أن الصراع السياسي يُدَارُ بأخلاق، ويتعالى على الأحقاد ورغبات الانتقام المريضة.

وعودة للمقدمة الطللية حول تبييض سيرة البعض، فكم من جلاد ألبسوه صفة مقاوم، وكم من فاسد تربع على هرم تدبير المال العام، وكم من متقاعس لمَّعُوا له سيرة كفاءة مزعومة، هي آلات جهنمية لتبييض سيرة ماضٍ أسود لتسويق وجه آخر لعملة مزيفة. ونحن على مسافة أيام مرت على ذكرى أخرى لاغتيال الشهيد عمر بنجلون، ذلك الدينامو الذي بَيَّتُوا ليلا مؤامرة إطفاء شمعة صوته الجهوري الصادح بالحقيقة، فمناسبة القول هو ما صرح به مباشرة بنكيران بعد تورط أفراد من جماعته في جريمة الاغتيال سنة 1975، حين قال : " أَمِنْ أَجْلِ كَلْبٍ أَجْرَبَ يُحَاكَمُ خِيرَةُ أَبْنَائِنَا ؟ "، دفاعا عن قتلة عمر من أبناء جماعته، وتشاء "الصُّدف" المرتبة والمحبوكة والموجَّهَةُ أن تختفي وثائق مهمة من ملف قضية اغتيال الشهيد عمر، كان يمكن أن توصل خيوطها إلى العقل المدبر وراء أدوات التنفيذ، وقد لعب عبد الكريم الخطيب أول أمين عام لحزب العدالة والتنمية دورا محوريا في تغطية مدبري الاغتيال وتهريبهم للخارج وإخفاء معالم الجريمة، وتشاء "الصُّدف" المحبوكة أن يتم تبييض سيرة الخطيب وبنكيران الدموية، ليتربعا على عرش حزب نشأته مرتبة في مختبر دار المخزن، وتم تبييض سيرة جيش من الأشخاص المدربين والمعدين لإنجاح تجربة كسر كل ماضي اليسار واجثتاته، وقطع صلة هذا الجيش الماضوي بماضيه الأسود، حتى يتم تقديمهم للعامة كحقوقيين أو جمعويين أو حتى أساتذة جامعيين، فهي نفس الجريمة الكاملة التي تنتهي بالتبييض عند كامورا إيطاليا، عفوا كامورا المغرب.

ويحدث أن يقع نبش في ملفات أحد الحرس القديم للكامورا المغربية، وتظهر فجوات في ملف تبييض السيرة هذا، وتطفو للسطح خيوط تنسف حبكة جريمة الشهيد بنعيسى أيت الجيد، يمكن مرة أخرى أن تختفي الوثائق أو يتم إسكات الشهود، فذلك رهين بتقلبات ومزاجية زعماء الكامورا، وتبادل لعبة المصالح والتوازنات الحالية، ومعالم رسم خريطة المستقبل.

هاته المعادلة الدقيقة لمختبر دار المخزن وأدواته، لا تعفينا من منطق الجهر بالحقيقة وإنصاف الأسرة، وهذا المبدأ السامي يمنع بالضرورة من الإصطفاف مع من يحاول بحُسن أو سوء نية إغلاق ملف عائلة الشهيد بنعيسى أيت الجيد، ليس حقداً أو ضغينة أو رغبة مرضية في الانتقام مِن مَن أجرم، لأن بشاعة أن تتجرأ عصابة من 30 فردا، وتحت لبوس ديني، على إيقاف سيارة أجرة وتخرج طالبين منها، يتم اغتيال الأول بطريقة بربرية بتهشيم جمجمته وترك الثاني بين الحياة والموت، تسائل كل شرائع الأرض عن الجناة، فما بالك إذا كان جيش الكامورا الموجَّه والمُغَطى بتبييض سيرته لمآرب الحُكْمِ اللحظية، هو من نَفَّذَ، وحين يعيد زعماء الكامورا توزيع أوراق اللعب فلن ترف جفونهم لإرسال الحطب اليابس، إلى الحرق بفرن المراحل المقبلة، ولو كان "حاميا للدين"، وسيبقى واجب إجلاء الحقيقة ضرورة لا تتقادم ولا تخضع للأمزجة اللحظية.

ملحوظة لها علاقة بما سبق :

1) إن التاريخ المشرف لنضال اليسار مرتبط بطبقة "المزلوطين"، ولنا كل الفخر أن ندافع على مهمشي هذا الوطن، أحلامهم آمالهم في وطن عادل يتسع للجميع.

2) حتى يفهم البعض الفرق بين الحقد وتصفية الحسابات من جهة، والاستماتة في معركة إجلاء الحقيقية من جهة أخرى، فبذراعي آثار كسر خطير جداً، كان المستهدف فيه رأسي في ذات المرحلة الدموية جداً بالجامعة وفي نفس السياقات، كنت قاب قوسين من مواكبة نفس مصير الشهيد بنعيسى، ولم أبحث قط عن تصفية الحساب مع جناة المرحلة، وهم على مرمى حجر، فمكتبة الجاحظ وقِيَمُهُا بين عيني، ولست من هواة نصب خيمتي وسط تاريخ قديم، لكن دم الشهداء أمانة ثقيلة جداً.