العقل السليمُ، النَّيِّر والمستنير يقول : "من المستحيل أن تكونَ "الحرية المطلقة" قابلة للتطبيق في مجتمعاتٍ منظمة أخلاقياً، اجتماعيا وقانونياً". لماذا؟
لأن حريةَ الأفراد تصبح مبدأً/قيمةً جماعياً/جماعيةً مُقيَّدة بحرية الآخرين. وهو ما يُعبَّر عنه، في المجتمعات المنظمة ب"تنتهي حرية الأفراد عندما تبتدئ حريةُ الآخرين". إذن، "الحرية المطلقة" ليست إلا وهمٌ بعيدٌ كلَّ البُعد عن واقع المجتمعات المُنظَّمة. وحتى إن وُجِدت "الحرية المُطلقة" في بعض المجتمعات، فاعْلَمْ أنها مفروضة على هذه المجتمعات من طرَف طُغمةٍ بشريةٍ مستبِدَّة تفرض أفكارَها وهيمنتَها على الآخرين، وخصوصا، المستضعفين منهم.
إذن، الحريةُ لا يمكن أن تكونَ مطلقةً في مجتمعات منظَّمة. يمكن، فقط، أن تكون نسبية relative، أي قابلة للتَّغيير عبر الزمان والمكان. بمعنى كلما تطوَّرت المجتمعات المنظمة، كلما أصبحت في حاجة إلى قِيمٍ اجتماعية وأخلاقية جديدة، وكلما أصبحت قوانينُها التنظيمية متجاوزة، أي في حاجة إلى التغيير. وخير مثالٍ يمكن سياقُه، في هذا الصدد، التَّغييرات التي عرفتها مُدوَّنة الأسرة، مُؤخَّراً، ببلادنا.
وهذه التَّغييرات لم تُمطِرها السماء. بل فرضها واقع المجتمع المغربي الذي، كباقي المجتمعات في العالم، يتطوَّر تمشِّياً مع ما يحدث من تجديدٍ في جواره القريب والبعيد.
والحديث عن تغيير مدوَّنة الأسرة يجرني إلى الحديثِ عن تعارُضٍ صارخٍ بين ما تريده وما تصبو إليه من "حرية مطلقة"، شريحةٌ عريضةٌ من علماء وفقهاء الدين، وبين ما يوجد عليه المجتمع المغربي من "حرية نسبية" liberté relative، مَبنِيٌّ عليها تساكنُ وتعايُشُ أفراد هذا المجتمع.
إنه، فعلا، تعارضٌ صارخٌ بين مجتمعٍ يتطوَّر ويتمدَّن ويتحضَّر وبين علماء وفقهاء الدين الذين يريدون أن تكونَ لهم "الحرية المُطلقة" لفرضِ رؤيتَهم لدينِ الإسلام على المجتمع المغربي. يريدون أن تكونَ بلادُنا دولةً دينيةً تحكمها الشريعة، أي تستمدُّ قوانينها التنظيمية من الشريعة. وهذا شيءٌ مستحيلٌ، على الإطلاق. لماذا؟
لأن الشريعةَ، أولاً، أنتجتها عقولٌ بشريةٌ. وكل ما تُنتِجه العقول البشرية، قابلٌ للنقاش وللتغير. ثانياً، إن كانت هذه الشريعة صالحةً لزمانٍ ومكانٍ معيَّنين، فإن المجتمع المغربي، شأنُه شأنَ جميع المجتمعات البشرية تأثَّر بالحداثة وما أنجبته من تقلُّبات فكرية، قيمِية، اجتماعية، اقتصادية، علمية، تكنولوجية، صناعية... وكل بلدٍ تخلَّف عن سير هذا الرَّكب الذي لن ينتظرَ أحداً للحاق به، فمحكومٌ عليه بالتَّخلُّف، إن لم نقل الانقراض.
فما على علماء وفقهاء الدين إلا أن يجتهدوا ليغيِّروا أفكارَهم الدينية لتُصبحَ متلائمةً مع روح العصر الحالي الذي يعيشون فيه. والاجتهادُ لا يكون بالنَّقل والتقليد الأعمى. بل يكون بالإنتاج الفكري في مختلف مجالات المعرفة الدينية. عليهم، كذلك، أن يعيدوا قراءةَ القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية التي تبثت صحَّتُها، قراءةً تأخذ بعين الاعتبار التغييرات التي طرأت على المجتمع الإسلامي الذي تغيَّرَ رأساً على عقبٍ.
فما على علماء وفقهاء الدين إلا أن يتخلَّوا عن رغبتِهم في الحصول على "الحرية المطلقة"، واستبدالُها ب"الحرية النسبية" التي يرتكز عليها تساكنُ وتعايُشُ أفراد المجتمع المغربي الذي لا يمكن، على الإطلاق، أن يبقى جامدا طيلةَ قرونٍ من الزمان.