رأي

بنسعيد الركيبي: التطرف الذي تسلل عبر صناديق الكتب والمطبوعات

خلال سنوات السبيعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كانت بعض المراكز التثقيفية حتى لا نقول الثقافية، التابعة لدولة شرق أوسطية تنشط في توزيع صناديق مليئة بالكتب والمطبوعات والمطويات الدينية بمختلف الأحجام والأشكال على المؤسسات التعليمية والجمعيات الثقافية. وكان يتم تقديمها بسخاء تحت غطاء التشجيع على القراءة لتمنح كجوائز للمسابقات الثقافية، أو كهدايا للطلاب المتفوقين الذين حصلوا على معدلات عليا.

ولم يكن أحد حينها يرى في الأمر إلا مبادرة نبيلة، تشجع المتمدرسين والشباب على التعلق بالمعرفة والهوية الدينية، دون إدراك أن بعض هذه الكتب كانت تحمل بين طياتها أفكارا لا تشجع على التفكير النقدي بقدر ما ترسخ رؤية متشددة للعالم والتدين.

ولم يكن المتلقون لهذه الجوائز يدركون أنهم يحصلون على أكثر من مجرد كتب؛ كانوا يتسلمون بذورا فكرية تزرع في عقولهم الصغيرة، لتؤتي أكلها بعد سنوات. (ابن تيمية، ابن باز، ابن عثيمين وغيرهم)، لم يكونوا مجرد أسماء في كتب الفقه، بل كانوا منظرين لفكر ديني يقوم على القطعيات المطلقة، والتشدد في الأحكام، والنظرة الصارمة للعقيدة والمجتمع.

حدث ذلك في زمن كانت الأجهزة تراقب فيه المقاهي ودور الشباب وأنشطة الحركات الطلابية في الجامعات ومقرات أحزاب مرحبا وانشطة النقابات والشبيبات الحزبية، ويرفع المقدمون تقاريرهم في شأنها دون ان ينسوا ذكر أسماء من يقرأ جرائد المعارضة أو أي مطبوعة قد تحمل توجهات معارضة. بينما كانت هذه المطبوعات الدينية توزع بحرية وبسخاء، دون أن تثير أي شك لدى الأجهزة المعلومة، التي ظلت حبيسة النظرة الأمنية التقليدية، غير مدركة أن التحولات الحقيقية لا تتم فقط عبر البلاغات السياسية أو الأنشطة الحزبية والشبيبية أو الصحف المعارضة، بل عبر تشكيل العقليات في سن مبكرة.

لم تكتفِ هذه المراكز بتوزيع الكتب، بل فتحت أبواب المكتبات التابعة لها للانخراط المجاني، مستقطبة التلاميذ والطلبة ببرامج توجيهية ممنهجة. وهناك بدأ مسار طويل لن ينتهي إلا في رحاب جامعات تلك الدولة الشرق أوسطية، حيث يحصل الطلاب على منح دراسية كاملة، وإقامة مريحة توفر لهم كل سبل الدرس والتحصيل، ضمن بيئة فكرية تعيد تشكيل وعيهم وفق تصورات غلاة التدين في ذلك البلد.

وعلى مدى عقود، تخرجت أجيال كاملة بتوجهات مشكلة مسبقا، فأصبحت ترى في تدين أهلها دينا مشوها، وفي مجتمعها بيئة غارقة في الضلال. وبلغ بهم الأمر حد تكفير المجتمع بأسره، بل وإعلان الجهاد فيه، لإسقاط ما أسموه بـ"الطاغوت".

ولم تكن هذه مجرد أفكار منعزلة، بل كانت وقودا لموجات من العنف لاحقا، حيث تحول بعض هؤلاء المتخرجين إلى قيادات فكرية وتنظيمية للحركات المتشددة، واستيقظنا ذات مساء على وقع الانفجارات، تهز مناطق من مدينة الدار البيضاء...ولم تكن سوى انفجار الجوائز الملغومة التي تم توزيعها بسخاء..

وبعد أن دفعت الدولة ثمن هذا التساهل، أصبح التحدي المطروح أمامها يتمثل في كيف يتم تحصين الأجيال القادمة من الوقوع في فخ الاستقطاب والاستيلاب وذلك بمراجعة وتطوير المناهج و بناء بيئة تعليمية تعلم التفكير النقدي، وتسمح بالتعددية الفكرية. فالخطر لم يكن في الجوائز نفسها، بل في الفكر الذي حملته، وفي الغفلة التي سمحت له بالانتشار.