قضايا

الأسرة بين وجع اعتقاد ومخاض حقوق: 7 - عيش مشترك وعمق إنساني (أ)

سامر أبو القاسم

هل المطالبة بتحديث المجتمع والدولة وتجديد الفكر الديني وإصلاحه والبحث عن حلول معاصرة لظواهر وقضايا اجتماعية وأخلاقية طارئة أو مستفحلة يعد مسّا بالذات الإلهية ويشكل ضربا لمعتقدات الناس ومقدساتهم وأمنهم الروحي؟ أم أن الضرورة تقتضي البحث عن صيغ فرض الاحتفاظ بممارسة الأنشطة الدينية في أماكنها التعبدية، ووفق القوانين والأنظمة والأحكام الوطنية، وإلزام محتويات الوعظ والخطب بالتناسب مع ظروف وخصائص العصر وإدماجها في الثقافة المحلية لتعكس الانضباط للقيم والتوجهات الفكرية والاقتصادية والسياسية المتعاقد عليها مجتمعا ودولة؟

إن الاستكانة للإحساس بوضع الاستقرار والأمن والطمأنينة، في وقت تنهار قواعد التعايش السلمي وتهتز قيمه وغاياته وتنكشف عيوبه وأسراره، تعتبر عجزا وكسلا ومضيعة للوقت وتفويتا لفرص تحسين الشروط والتموقع اللائق. وعدم التزام سبل التيسير يفقد الدين تميزه ويخرج معتنقيه إلى الغلو يمينا والانحراف يسارا، نتيجة عدم الاهتمام بفقه النوازل وتقاعس الدعاة والهيئات الدينية عن القيام بالأدوار المنوطة بهم، وعدم تحصين النشء وتعزيز القيم والمبادئ بما يكفل حماية المجتمعات. وهو ما ساعد على الخروج بالدين من طابعه التربوي الساعي لتغيير سلوكات الأفراد وعادات حياتهم إلى اختزاله في حركات مذهبية تهدف إلى إقامة كيان سياسي لممارسة السلطة.

فدائرة العطالة والفردانية والاستهلاك آخذة في التوسع، والثقافة الإنسانية سائرة في طريق الاضمحلال، والعيش ما عاد يطاق مع استفحال ظواهر الفقر والجهل والتخلف وهيمنة العشوائية والفوضى وطغيان عدم التوقير والاحترام. وظاهرة اتساع مجال مساندة القوى المحافظة داخل النخب بيمينها ويسارها في العالم آخذة في التزايد والاطراد، بمبرر ضمان استقرار المجتمعات والأسر، وهو ما يسترعي الانتباه ويستدعي خوض المزيد من المعارك بنفس طويل، عبر إطلاق العنان لنقاشات عمومية ولبسط تحليلات وتوضيحات كافية، تفاديا للسقوط في مرمى نيران المواطنات والمواطنين، وللتعرض من جديد للتكفير من قبل المغالين والمتطرفين المتحركين كدمى في أيدي قوى تعمل على استدامة السيطرة على العالم.

والحيطة والحذر مطلوبان اليوم أكثر من أي وقت مضى، بخصوص تحريف النقاش عن مواصلة المسار التنموي لتحقيق التقدم الاقتصادي وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية بموجات عدم مراعاة وازع الاعتزاز بالهوية والحضارة والثقافة والتمسك بالأحكام الشرعية، التي تَظْهَر في العديد من المناسبات، وتُظْهِر تعبيراتٍ مطالبة بالابتعاد عن تكريس التبعية العمياء للدول الغربية واستنساخ نظمها وقوانينها بشكل متنكر للهويات والثقافات المحلية. وفي هذا الإطار يفترض الانتباه للدعوات والمطالبات التي تتكاثر ويتعاظم حجمها وتأثيرها وتفريخها، والتي تنصبّ على اتهام قوى التحديث بالعمالة للغرب والتنكر للهوية الدينية في النسيج المجتمعي، وعلى إقرانها بشرعنة العلاقات المُحرَّمة دينيا.

صحيح أن الغرب ظل في مخيال جزء من النخب صورة مُجسِّدة لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومُمثِّلة للإنصاف والعدالة الاجتماعية والمساواة، ومُتصدِّرة للتقدم والحضارة في العصر الحديث، ومُفعِّلة لحرية الفكر والاعتقاد والتعبير، وساحة فسيحة للفعل والتفاعل بين كل المشارب والتيارات، يُسْتَبْعَدُ أن يتحرك فيها ما يمكن سحبها إلى الخلف. لكن القناع يسقط يوما بعد يوم عن وجه هذا الغرب الذي حمل مشعل الحرية وتوفير مساحات شاسعة لممارسة النقد الواضح للقمع والمنع وتكميم الأفواه.

فمع توالي الأيام لم تعد إجراءات المنع تشكل سوابق تفتح أبوابا لتصرفات جديدة، بقدر ما أصبحت تعري الوجه المتخفي لكل الممارسات المشينة ثقافيا وسياسيا ولكل التوقعات السلبية بخصوص الكتابة وحرية التفكير والاعتقاد والتعبير. بل ولم يعد مستغربا من هذا الغرب تشابهه مع بلدان متخلفة في السلوك حيال منع كتاب وتداوله والحد من انتشاره لهذا السبب أو ذاك، وحظر بث القنوات التواصلية وقمع الإعلام، وانتهاك الحق في الحصول على المعلومات، والاستهتار بواجب المحافظة على حرية التعبير وحرية الصحافة وحماية الصحافيين، بشكل دال على فداحة الانتهاكات الخطيرة للحريات الأساسية.

وكأننا اليوم بصدد نزوع عام نحو تقويض كل القواعد الضابطة للسلوك، وإلى تفكيك اتفاقات النظام العالمي التي تم التوصل إليها بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، وكأن عوامل التعرية آخذة في التوسع والانتشار.

وكما يفعل الماء والنار والهواء في صخور القشرة الأرضية، فممارسات وتصرفات وسلوكات الدول الغربية تعمل على كشف المستور وفضحه، لينبعث من رمادها طائر مقاومة شرسة ضد العديد من القرارات التي رفعت من مستوى حضور قوى الظلام وتوسيع دائرة الحلال والحرام بمفهومها السياسي والثقافي، وحتى الديني.

فإلى وقت قريب، لم يكن من احتمال وارد للتفكير في أن أحضان عصر الأنوار التي ما انفكت تُعرَف بالتفتح ونظام العمران والديمقراطية وحقوق الإنسان سترتبط بعناوين بارزة وجذابة على النقيض من ذلك، إلى أن بدأت المعالم تتضح وتنكشف، ليعتبرها البعض تحولا خطيرا وانهيارا في القيم الكبرى التي تأسست عليها المجتمعات الغربية المتنوعة.

والحال أن ديدن الغرب هو ممارسة الإرهاب الاقتصادي، ومحاولة فرض نظام غير خاضع لقوانين الشرعية الدولية، وتبني قواعد مجهولة المصدر إلا ما كان من تلاؤم مع مصالح دوله، في تناقض صارخ مع ثقافة باقي الدول وأديانها وثقافاتها وأعرافها وتقاليدها الإنسانية، والإصرار على الاستمرار في اتباع نمط الاستعمار القديم وإخراجه بصور مختلفة، لينكشف في الأخير الوجه الحقيقي لليبرالية المتوحشة والسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

وهذا الميل إلى أفعال وسلوكات منافية للقانون الدولي والشرعة الدولية والخروج عليهما، يعصف بكل الجهود التي بذلت في السابق لعدم تكرار الأهوال التي تعرض لها العالم في السابق ويريد تجنبها في المستقبل، ويطرح أكثر من علامة استفهام حول تأسيس هيئة الأمم المتحدة وإصدار ميثاقها، الذي ما عاد ملزما حتى لأعضائها الدائمين ولا إطارا للتنسيق من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدولي والتطور واحترام حقوق الإنسان، بل وأصبح مجالا للكيل بمكيالين، ليضع العالم في حالة من الفوضى الكونية، ولكي تتسع الهوة بين سياسات الحكومات وانتظارات الشعوب، ولتتم رعاية الاحتلال وحمايته.

وهذا التطوير القسري للمجتمعات على مقاس هيمنة الغرب كراعٍ لليبرالية المتوحشة وكناهب للثروات الطبيعية، حد من خيار كيفيات تحقيق البلدان نتائج إيجابية لمواطنيها، وعمل على هزِّ منظومات قيمها ومرجعياتها، وخلخلة بناها الاجتماعية والمجالية. ولم تسلم من أذاه حتى البلدان الشرقية التي أصبحت تحتل مكانتها في العالم كدول عظمى.

وبعد هذا التوصيف، الذي شملته العديد من التحليلات الدقيقة في كل الأرجاء يتضح أن العالم يتجه نحو كارثة، وهو ما يجعل الحداثة تترنح في بركة نسج أساطيرها وطقوسها لتغليف القهر بالبلاهة، حتى يتيه الناس في الحياة وتغوص الحقيقة في التفاهة. فما صارت الأمور تُحْتَمَل مع مكافأة الرداءة والوضاعة بدلا من الجدية والمثابرة والجودة في العمل، وتفريخ مصانع للتفاهة الثقافية والسياسية والفنية، لتعميمها على كافة مجالات الحياة المتنوعة، وتلويثها بناء على قاعدة المال كمصدر للنجاح، وسحب الحب والشغف بالعمل واستبدالهما بالبحث عن مصدر دخل للعيش لا أكثر.

وهنا بالضبط تكمن أهمية الاجتهاد في البحث عن مكانة متميزة تجمع بين ما تأصّل من تنور في الموروث الديني والثقافي وبين ما تراكم من إشعاع لتجارب الشعوب المعاصرة في إطار تلمس مداخل الإقلاع والازدهار، لتتبوأ الأسرة مكانتها من حيث ضمان الاستقرار لمكوناتها والقيام بأعبائها وواجبتها تجاه المجتمع والدولة.

تتغير الرؤية للعالم والأشياء بتغير الظروف، وتتحول الأفكار والمواقف بتحول الشروط، وتتبدل الفتاوى بتبدل العديد من الموجبات على رأسها تبدل الزمان والمكان والأعراف وفقا لمقتضيات العيش في كل عصر. وذاك من المعلوم الذي لا اختلاف عليه، وهو أساس الحاجة المستمرة للتنشئة والتنوير اللذين يشكلان أساس العمل في كفاح التنمية والبناء وإحراز السبق في ميادين النهوض والإقلاع والازدهار. وذاك ما يتطلب الإصرار على جعل الخطاب تنويريا مُوجَّها لطاقات الأجيال فيما ينفعها وينفع مجتمعاتها ويحافظ على معتقداتها وقيمها ومعاملاتها وتصرفاتها، بما يكفل العيش في أجواء روحانية غير معزولة عن سياقاتها العصرية. فشرط المعاصرة ضرورة يوجبها الدين وواجب يحتمه الواقع، ليبقى الاجتهاد فعّالا لفهم الشرع في إطار التيسير الهادف إلى الائتلاف والتعايش.

لكن الملاحظ هو أن طبيعة التفكير والخطاب والوعظ والدعوة لا زالت غارقة في الأساليب التقليدية المُسبِّبة في إعراض جزء كبير من الناس المتسلحين بالمعرفة والعلم عن كل ما يُشْتَمُّ فيه رائحة المعتقد الديني. وأحداث ووقائع الإرهاب الديني باسم الجهاد لنصرة الإسلام التي انتشرت بفعل جماعات متطرفة عبر الأقطار في العالم لا زالت مُفزِعة للبشرية من تلك الجرائم الوحشية في حق المجتمعات والدول. وهو ما يعطل مسارات التنمية والإقلاع للكثير من المجتمعات الإسلامية اليوم، ويسائل نوع التنشئة داخل الأُسر في هذه البلدان، التي لم يَعُد فقهاؤها يقيمون وزنا في الحياة العامة والخاصة لحفظ النفوس والعقول والأعراض والأموال، بل ويتفرغون كلية لمقصد الدِّين وعزله عن باقي المقاصد الأربعة السالفة التي يتم اعتبارها محض دنيوية.