ميشيل بارنيي، الوزير الأول الفرنسي، تمكن أخيرًا يوم 21 شتنبر 2023 من تشكيل حكومته بعد مفاوضات صعبة وفي ظروف سياسية معقدة. وبما أن الوزراء، وهم بالضرورة نساء ورجال سياسة يمثلون تيارات سياسية وأيديولوجية مختلفة، فقد انفتحوا على المواطنين منذ اليوم الأول لتعيينهم. ظهروا بشكل متواتر عبر وسائل الإعلام، حيث حلوا ضيوفًا هنا وهناك، وشاركوا في البرامج السياسية ونشرات الأخبار، رغم أن رئيسهم لم يقدم بعد تصريحه الحكومي
سيكون من البساطة الاعتقاد أن هذا ،تصرف متسرع .
فأعضاء الحكومة الجديدة كلهم سياسيون وقادمون من عائلات سياسية ويمثلونها، وكل عائلة لها مرجعيتها السياسية، وأحيانًا العقائدية، التي ينطلق منها الوزراء في تنشيط النقاش السياسي. لذلك، لا غرابة أن تكون مساهمة ميشيل بارنيي نفسه وأعضاء حكومته في تنشيط المشهد الإعلامي والحياة السياسية أمرًا عاديًا، على الرغم من أن عمر هذه الحكومة لا يتجاوز بضعة أيام. حتى أن الفرنسيين أصبحوا معتادين على وجوه هؤلاء المسؤولين السياسيين، بما في ذلك الجدد منهم.
اللافت أن ميشيل بارنيي، الذي جمع أعضاء حكومته يوم الجمعة 27 شتنبر في ماتينيون لإعداد ومناقشة البرنامج الحكومي الذي سيعرضه على البرلمان الفرنسي يوم الثلاثاء 1 دجنبر، طلب من فريقه تعليق كل التصريحات لمدة ثلاثة أيام فقط.
هذا هو الوضع الطبيعي والعادي في كل الدول التي اختارت الديمقراطية عبر الانتخابات الحرة والنزيهة أسلوبًا لتشكيل الحكومات وتدبير الحكم.
فالسياسة ليست مجرد إدارة تقنية للشؤون اليومية، بل هي فن قيادة المجتمع نحو أهداف بعيدة المدى لتحقيق تطلعات المواطنين.
أين نحن من هذا كله في هذا البلد السعيد؟ أين هو تنشيط الحياة السياسية من قبل الفاعل الرئيسي؟ ما هي البرامج السياسية التي يشارك فيها وزراؤنا ووزيراتنا؟ هل يعلم هؤلاء أن غياب النقاش السياسي يؤدي حتمًا إلى شعور المواطنين بأن الحكومة معزولة عن احتياجاتهم وتطلعاتهم، حتى وان حققت إنجازات في الواق وهذا طبعا يضعف الثقة في المؤسسات.
من منكم حضر أو شاهد أو قرأ حوارًا سياسيًا مع وزيرة أو وزير؟ بل من منكم، أيها المتابعون، بما فيهم الصحافيون، يعرفون جميع أعضاء حكومتنا الموقرة؟
لقد شعرت بالحرج الشديد يومًا، بعد مرور سنة على تنصيب الحكومة الجديدة، عندما وجدت نفسي وجهًا لوجه مع سيدة محترمة داخل مصعد بإحدى الوزارات. لم أكتشف أنها وزيرة إلا عندما وصل المصعد إلى الطابق الثالث، حيث كان مقر الاجتماع. استقبلها المسؤولون عن الاجتماع بصفتها الرسمية .حينها، اعتذرت لها بعد تحيتها بما يليق بمقامها.
في زمن ما، قال الجنرال شارل ديغول: "السياسة أمر جاد للغاية، لا يمكن تركه للتقنيين فقط".
أي أن السياسة تتجاوز مجرد الإدارة التقنية والتعامل مع الأرقام والبيانات. فهي تتطلب رؤية شاملة، قيمًا، ومواقف يُعبر عنها لخلق نقاش قد يكون حادًا بين المؤيدين والمعارضين. غياب النقاش السياسي من طرف اية حكومة يضعف العمل البرلماني، ويعطل العمل الصحفي، ويوسع الهوة بين المواطن ومؤسسات بلاده السياسية. وبما أن الإنسان بطبعه كائن سياسي، كما قال أرسطو، فمن المؤكد أن هناك من يُنشط حياة أخرى في السراديب وفي الليل بعذاب القبر وحور العين ما دام أن الطبيعة ترفض الفراغ.
تخيلوا لو أن الحكومة الحالية بدون عبد اللطيف وهبي، وزير العدل. صحيح أنه يصيب ويخطئ، ولا شك في ذلك، لكن على الأقل المغاربة يعرفونه ويعرفون مواقفه من عدة قضايا مجتمعية: المرأة، الحريات الفردية والجماعية، العقوبات البديلة، ومدونة الأسرة. حتى عندما أساء التقدير وتقدم بشكايات ضد إعلاميين ، خرج ودافع عن رأيه، وها هو الرأي العام المغربي يحاسبه ويحتج ضده. هذا هو رجل السياسة، وهذا هو الوزير.
طبعًا، عبد اللطيف وهبي لم يكن موفقًا في بعض تصريحاته المثيرة (مثل قصة "التقاشر" و"ولدي قرا في كندا"... وغيرها)، لكنه يبقى فاعلًا سياسيًا حاضرًا بقوة في الحياة السياسية. يصرح، يناقش، يجادل، يخطئ، ويخلق الزوابع واحدة تلو الأخرى، لكنه يعتز بهويته السياسية ويتحمل مسؤولية مواقفه.
هل لديكم اسم آخر في المشهد السياسي؟ لا أعتقد ذلك. فالكل يفضل الاختباء في جلباب التقني والموظف السامي ويلعن السياسة والسياسيين.
فكما قال فاسلاف هافيل، الرئيس التشيكي السابق: "السياسة ليست مجرد تقنية لإدارة السلطة، بل هي وسيلة لبناء المجتمع وإعطاء معنى لحياة المواطنين ،،
فكم هو جميل هرج سي عبد اللطيف وهبي الفاعل السياسي وكم هو بئيس صمت القبور لأصحاب المعالي السيدات والسادة الوزراء . كل بصفته والإحترام الواجب له ،