رأي

رشيد لبكر: خطاب العرش والرسائل الثلاث الهامة ذات الدلالة البليغة

لا أنكر أنني انتظرت خطاب العرش لهذه السنة باهتمام خاص، لغاية أساسية وذات أولوية قصوى، ألا وهي الاطمئنان على صحة جلالة الملك، وبالتالي تبديد أراجيف المبطلين الذين يحاولون دائما الخوض في الماء العكر، مستغلين أي  حدث للتأثير على أمن واستقرار بلادنا، و كما ظهر لنا  وللجميع، فقد بدا صاحب الجلالة بصحة وعافية وهو يتماثل إلى الشفاء، وكان ظهوره في الخطاب كافيا لطمأنه المواطنين على  صحة ملكهم  وتبديدا لكل الإشاعات، لذا، فقد كان لهذا الخطاب- من هذه الزاوية الوطنية العاطفية- أهميته البالغة ووقعه الخاص.

أما بخصوص مضمون الخطاب ذاته، فأعتقد، أنه حمل العديد من الرسائل الهامة،  يمكن الوقوف عندها من خلال استيعاب الكلمات التي حرر بها، وقد كانت منتقاة بعناية فائقة وكافية لتبليغ المعنى المحمول عليها. 

 الرسالة الأولى: فبعد أن أعاد جلالته، التأكيد على مكانة المرأة في النسيج المجتمعي وعلى خيار المملكة الراسخ في تمتيعها بحقوقها الكاملة أسوة بالرجل، وبعد تذكيره بكل الخطوات التي قطعها المغرب لترسيخ هذا الخيار، ومنها مدونة الأسرة، وقف لتوضيح نقطة أساسية، وهي أن المدونة:  " " ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال" ، وبذلك فقد صحح الفكرة المغلوطة لدى فئة  من الموظفين ورجال العدالة بل ولدى والعديد من المواطنين، الذين "مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء". ودعا تبعا لذلك إلى واجب  التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية، مشددا على ضرورة "تجاوز الاختلالات والسلبيات ، التي أبانت عنها التجربة ، ومراجعة بعض البنود ، التي تم الانحراف بها عن أهدافها ، إذا اقتضى الحال ذلك"، ومؤكدا بالتالي على أن  مدونة الأسرة، إذا كانت قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها "أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها".  من هنا، نفهم بأن  جلالة الملك، مع الدعوة إلى إعادة النظر في هذه المدونة، لتصحيح ما يقتضي تصحيحه فيها، إلى جانب أن  إشارته، بكونها "جاءت لتنظيم الأسرة بأكملها وليس فقط العنصر النسوي فيها، على أساس أن يتساوى الرجل والمرأة فيها بالحقوق"، تعني، في نظري، عدم حصر النقاش بخصوصها في مسائل الزواج والطلاق والنفقة وغيره، ولكن بما هو أكبر، ومنها قضية الميراث التي قيل فيها الشيء الكثير، وبالتالي فقد فهمت من الخطاب الملكي، بأنه ليس ضد الانكباب على مناقشة هذا الموضوع، لكن على أساس وضع ضوابط  لهذا  النقاش توجهه و تؤطره، حتى لا ينحرف عن السياق المراد له، ولعل العنوان الأبرز لهذا الضابط، يتجلى في  توضيح جلالته: " وبصفتي أمير المؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان ، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله ، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية. ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك ، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية ، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الإعتدال والإجتهاد المنفتح ، والتشاور والحوار ، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية"،  الرسالة واضحة إذن، وهي أن جلالة الملك، وبصفته أمير المؤمنين، وهو الراعي الأول للحلال والحرام في البلاد، مع فتح باب الاجتهاد والحوار في كل القضايا التي تهم الأسرة بما فيها قضية الميراث، ولكن على أساس أن يكون النقاش مؤطرا بمقاصد الشريعة الإسلامية ومستوعبا لمستجدات العصر وخصوصيات المجتمع،  أي محافظة بلا تحجر واجتهاد بلا تجاوز لصحيح الشرع، وبذلك يكون  جلالته قد أعطى الضوء الأخضر لبداية النقاش حول ورش إصلاح الأسرة بعد مرور سنوات من تطبيقها.

الرسالة الثانية التي تضمنها الخطاب الملكي، موجهة إلى الحكومة التي دعاها إلي الإهتمام بالوضع الاجتماعي والاقتصادي بالبلاد، عن طريق تحصين المكتسبات التي راكمها المغرب، من خلال تعامله الإستباقي والرصين مع جائحة كوفيد، والتي مكنته – كما قال جلالته – من "تدبير هذه المرحلة الصعبة، بطريقة فريدة، بفضل تضافر جهود المواطنين والسلطات"،  عبر  جملة تدابير، عددها في : توفير المواد الأساسية دون انقطاع وبكميات كافية، تقديم مساعدات مادية مباشرة للأسر المحتاجة ودعم القطاعات المتضررة، توفير اللقاح بالمجان، تنزيل المشروع الكبير لتعميم الحماية الاجتماعية وتأهيل المنظومة الصحية الوطنية، إطلاق برنامج وطني للتخفيف من آثار الجفاف على الفلاحين وعلى ساكنة العالم القروي، تخصيص اعتمادات مهمة لدعم ثمن بعض المواد الأساسية وضمان توفيرها بالأسواق، مضاعفة ميزانية صندوق المقاصة، ولأن كل هذه التدابير - في نظر جلالته - " ليست بكثير في حق المغاربة"، فإنه دعا الحكومة  إلى تحصين هذه المكتسبات، عبر "تعزيز آليات التضامن الوطني، والتصدي بكل حزم ومسؤولية، للمضاربات والتلاعب بالأسعار"، ومواجهة" العراقيل المقصودة" التي تواجه النهوض بالإستثمارات، والتي يهدف "أصحابها لتحقيق أرباح شخصية، وخدمة مصالحهم الخاصة"، وهو الشيء الذي اعتبره – جلالة الملك- "خطرا داهما يواجه البلاد، يجب محاربته"... إذن فهنا دعوة واضحة إلى الحكومة لتحمل مسؤوليتها، اتجاه المضاربين والمتلاعبين بالأسعار والمناهضين للإستثمار، وأعتقد أن الدعوة في حد ذاتها،  تحمل نقدا غير مباشر للطريقة التي تدبر بها بعض القطاعات الحيوية  في البلاد ولهامش الربح التي يجنى من وراء هذا التدبير.

أما الرسالة الثالثة،  والتي أعتقد أنها هي الأخرى على قدر كبير من الأهمية، فتعكس التوجه الجديد للديبلوماسية المغربية، القائم على الإقناع والهدوء ومقارعة الحجة بالحجة، بعيدا عن الإسفاف والميوعة والكذب والترويج للمغالطات، فجلالته إذن، جدد دعوته إلى المغاربة من أجل مواصلة : " التحلي بقيم الأخوة والتضامن، وحسن الجوار، التي تربطنا بأشقائنا الجزائريين"، وتشديده على أن المغرب لن يسمح: " لأي أحد، بالإساءة إلى أشقائنا وجيراننا"، وتوضيحه بأن "من يقومون بها، بطريقة غير مسؤولة، يريدون إشعال نار الفتنة بين الشعبين الشقيقين"، ثم تأكيده -على العكس من ذلك -، بأن الجزائريين " سيجدون دائما، المغرب والمغاربة إلى جانبهم، في كل الظروف والأحوال"، وبأن "الحدود، التي تفرق بين الشعبين الشقيقين، المغربي والجزائري، لن تكون أبدا، حدودا تغلق أجواء التواصل والتفاهم بينهما"، داعيا الرئاسة الجزائرية، إلى أن تضع يدها في يد المغرب " لإقامة علاقات طبيعية، بين شعبين شقيقين، تجمعهما روابط تاريخية وإنسانية، والمصير المشترك. 

أعتقد بأن هذه الإشارات البليغة والدالة لجلالته، تؤشر كلها على بداية أسلوب جديد في التعامل الإعلامي مع الجزائر، يقوم ، كما أشرنا سابقا، على الحجة والمعلومة الصحيحة والاحترام المتبادل، وينأى عن  منهجية السباب والابتذال والتسفيه، ومن تم، فهي دعوة، لكل من يهتم بهذا الموضوع، بأن يكون في مستوى هذا التوجيه الملكي، كي يرتقي الحوار ويسمو النقاش بالكملة البناءة، بعيدا خطاب الكراهية والفتنة "بين  الشعبين"، فالرسالة واضحة جدا، وهي من جهة أخرى، تجديد للنية الحسنة التي يحملها المغرب اتجاه الجزائر، ونداء يشهد به العالم، بأن المغرب،  بلد داعي إلى السلام ومن دعاة اليد الممدودة.

أرجو في الختام  أن يستوعب أشقائنا في الجزائر  الميساج  هذه المرة.