رأي

بوجمعة العوفي: اللُّعبةُ السّياسِيةُ في المغرب وقِسمَةُ "ضِيزَى"...

كُلّما ابتعدَ الناس عن أمور السياسة، وانشغلوا بغيرها، وصَبُّوا اهتمامهم على الكثير من الأشياء والأحداث الزائفة، وعلى الكثير من وسائل الترفيه والإلهاء (كرة القدم على سبيل المثال لا الحصر)، وحتى بعض "قضايا الأخلاق" و "فضائح" نجوم الفن والرياضة والسياسة، والتي غالبا ما يتم افتعالها، من حين لآخر، ضمن منطق صراع المَصالح وتصفية حسابات شخصية، يَفرح السياسيون كثيرا في عالمنا العربي وفي مغربنا الحبيب، يذهبون في عُطَلٍ مفتوحة، ويَغُطُّون في نومهم العميق، كمَا الحكومات التي يشكلونها بقسمة "ضِيزَى"، وهي القسمة الناقصة والمنافية للحقّ، مثلما جاء في القول الكريم من سورة "النّجم": "أَلَكُمُ الذّكَرَ وَلَهُ الأنثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى"، حيث يتأكد مدلول هذه القسمة حتى في المعاجم والقواميس العربية، وتأتي لفظة "ضِيزَى" في قاموس "المعاني" بمعنى: ظالمة وجائرة وناقصة ومنافية للحقّ... ويقال كذلك: ضاز فلانٌ فلاناً حقَّه، أي بَخسه ونقصه ... 

هذا حال الانتفاع السياسي والقسمة في توزيع المسئوليات والمناصب داخل الأحزاب السياسية المغربية، من الوزارة إلى أرقى المناصب في الإدارة، وهكذا يظل المشهد السياسي في المغرب بمثابة سوق أو مَعرض أو "فْوَار une foire "، مفتوح لبيع الأوهام والأحلام والبضائع الكاسدة والوعود التي لم تتحقق أبدا أو لم نلمَس منها سوى النزر اليسير، ولم يتذوق ثمارها هذا المواطن المغربي الذي يجد نفسه، مع كل حكومة وكل انتخابات، وكأنه يلعب أو يقامر، بالأحرى، بصوته وإرادته واختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية... يتحول الفعل السياسي ومشاركةُ المواطن في هذا الفعل إلى لُعبة حظ كبيرة ومغشوشة ... وكأن الأمر يتعلق بلعبة "السْويرتي" الشهيرة، على حد تعبير المغاربة وتوصيفات مِخيالهم الشعبي الواسع الذي يتفنن في عقد المقارنات الساخرة، واللعِب أيضا بالألفاظ وتحوير معانيها ومدلولاتها بشكل مدهش وبليغ التعبير... !    

أما ما تعنيه كلمة "السْويرتي" يا سادةُ، فيما تعنيه، ضمن التداول أو القاموس الشعبي المغربي: فهي لعبة الحظ أو المكان أو الحيز العام والشعبي الذي يقصده العامة من الناس للترفيه عن أنفسهم، وممارسة بعض الألعاب المختلفة، مثل ألعاب حظهم البسيطة كـلعبة "الدّادُوص Dados"، ولعبة "الفأر" ولعبة "الورقات الثلاث trois cartes Les" : أي لعبة "بَرَّقْ مَا تَقْشَع"، كما يحلو للبلاغة الشعبية المغربية أن تسميها تحديدا كذلك، وقد يستعمل البعض أو يشير بكلمة "السْوِيرتي" فقط إلى لعبة الحظ نفسِها، أو إلى ذلك الرواق الكبير المنصوب وسط ساحة "لافْوارLa foire "، والذي تُعرض فوقَ رفوفه شتى أنواع الأواني المنزلية البراقة والمرتبة بعناية:  قِطَعٌ لمّاعة ومصقولة يسيل لها لعاب الزوار والباحثين عن حظ عابر أو لحظة يختلسون من خلالها نظرة ماكرة إلى أهم "قطعة" أو شخصية موجودة بالرواق: "الرجل – الراقصة"، أو ما يسميه المغاربة تحديدا بلغتهم أو لسانهم الدارج بـ "شطَّاحَة لافْوار". هذه الشخصية العجيبة، ذات الغنج الأنثوي الماكر، والتي ظل أصحاب هذه الأروقة يستعملون حركاتها الراقصة الدلوعة لجلب أنظار الزوار وفضولهم، ثم استدراجهم ــ بالتالي ــ إلى اقتناء تذاكر اللَّعِب وانتظار الأرقام السعيدة التي قد ترسو عليها عجلات الحظ الثلاث أو الأربع المثبتة أمام الجمهور وسط الرواق.

ومَنْ يُتابِع الآن وقبْل الآن، بِعْينٍ فاحصةٍ مُجريات السياسة في المغرب، سواء داخل الأحزاب السياسية المغربية أو في عمل الكثير من الحكومات المتعاقبة، لن يجد صعوبةً كبرى في الإحساس، بل في الاقتناع، بأنه داخل فضاء يشبه إلى حد كبير ما يمكن أن نسميه بـ "لافْوار سياسي" مغربي، غالبا ما ظل يبدو للكثير منا مثل معرض كبير للمتعة والتسوق واللعب (لَعِبُ الكِبَار طبعا). إذ تَعرِف الأرجاء الفسيحة لهذا المعرض السياسي حركةً غير مسبوقة من الجري والسعي والإعداد ونَصْبِ الأروقة والدكاكين وتهييئ فضاءات "اللَّعِب"، مع ما يصاحب ذلك طبعا من أشكال الاتصال، والانفصال، والانتقال، وجريان المصالح والمناصب التي سرعان ما تُحقق المحالَ وتُبدِّلُ الأحوال: أحوال اللاعبين الكبار، والصغار الذين يصبحون بدورهم "كِباراً" أيضا بقُدرة قادر، وليس "الحرافيش" أو "بُوزبّال" كما يقال...!

وما زلتُ أجِدُني ككل المغاربة البسطاء، مع اقتراب كل موسم انتخابي أو موعد تشكيل حكومة مغربية، وحتى بَعْدَ تشكيلها (ما الفرق وما الفائدة كذلك؟)، مثل طفل في مقتبَل العمر، تستمتع حواسُّه الطرية بمشاهد "الألعاب" ومهرجاناتها المُسلّية، فهناك صاحبُ "الورقات الثلاث" الذي تجعلكَ خفة يده وحركاتُه السريعة والمخادعة لا تفلح أبدا في وضع يدك على الورقة الرابحة من ورقاته الثلاث ... وهناك صاحب لعبة "الخيط" السحري الذي تقوم اليد المخادعة بتشبيكه أمام عينيكَ على طاولة اللعب، لكنك تضع دائما أصبعك خارج تشبيكاته ودائرته المغلقة، مهما كانت درجة فِطْنتك ونباهتك ... ثم هناك  صاحب لعبة "الدادوص Dados" (لعبة النرد) أو المكعبات البيضاء النزقة، والتي لا تأتي أرقامُها أبدا متشابهة ومتطابقة بين يديك على رقعة اللعب ... !    

ثم هناك اللعبة الشهيرة والمعروفة بلعبة "الفأر الدّايَخ"، هذه اللعبة العجيبة التي يظل صاحبها "يُمَرْمِدُ" أو "يمْخُضُ" و"يُقَلْقِلُ" ذلك الفأر المسكين فيما يشبه الإناء أو "السطل" الصغير لدقائق عدة من دون رحمة أو شفقة، ليقذِف به في النهاية على أرضية رقعة اللعب دائخا لا يعرف أين يسير؟ بَعْدَ أن تكون كل الاتجاهات قد اختلطتْ في رأسه الصغيرة، والمحظوظ فقط من اللاعبين أو المراهِنين هو مَنْ يدخُل "فأر اللعبة" في صندوقه الخشبي (أو الحزبي) الصغير (لا فرق)، هو الصندوق الذي يُقال إنه بدافع "الشفافية" والكثير من ضرورات "المرحلة" أصبح زجاجيا في أيامنا هذه ... والله أعلم بالنّيات...!

لكن العجيب أيضا في الأمر، هو أنه قد تَعرِفُ هذه اللعبة العديدَ من المفاجآت غير السارة طبعا بالنسبة لبعض اللاعبين "الكبار"، مفاجآت تَنْحَبِسُ لها أيضا أنفاس هؤلاء اللاعبين أنفسهم وتشرئب لها أعناق المتفرجين والفضوليين من الجمهور وعيونهم، إذ يبدو لك "الفأر الدَّايَخ" المسكين متجها نحو رقم من الأرقام أو نحو صندوق من الصناديق، ثم سرعان ما يُغير اتجاهَه في آخر لحظة نحو رقم حظ أو نحو صندوق حظ آخر يكون صاحبه من المحظوظين الفائزين ... وهذا واقع شبيه إلى حد التطابق والقَرف، ومع كامل الأسف، بواقعنا السياسي المغربي ومناورات سياسييه وأحزابه في كل الاتجاهات !     

ولطالما تساءلتُ مع نفسي كذلك، وأنا أتأمل مجريات هذه اللعبة الماكرة العجيبة (لعبة الفأر ولعبة السياسة)، عَمَّنْ يكون اللاعب وأداة اللعب والملعوب به؟ ومن هو الرابح والخاسر، في النهاية، في هذه اللعبة؟  اللاعبون أم الفأر؟  هذا مع افتراض أن "الفأر الدّايَخ" نفسه مثل "شَطّاحَة لافْوار" (الراقصة -الشخصية الأكثر حضورا وإثارة وتركيبا في فضاء "السْويرتي" العجيب)، قد لا يكونان، في النهاية، بكل هذه البساطة السطحية والمخادعة التي نقنع بها أنفسنا أحيانا؟ إذ أكّدَتِ التجاربُ وممارسات السياسيين في المغرب، وما تزال في واقع الحال، أن العديد من الأدوار والأسماء والمواقف و المواقع و"المبادئ " والمفاهيم قد يتم قلبُها وتبديلها والتنصل منها أيضا في آخر لحظة، لا لكي تبدو متناسبة ومنسجمة مع رؤية وحاجة ومطمح المتفرجين المساكين، أو حتى مع أحلامهم وأوهامهم البسيطة وقواعد اللَّعِب وقوانينه التي لا تيتم احترامها أبدا، بل لتكون هاته الأشياء كلها مجرد لحظة لأوهام عابرة، يوحي ظاهرُها بشيء، وينطق باطنُها بأشياء أخرى لا علاقة لها حتى بـ "اللَّعب النظيف"، كما هو معمول به، على الأقل في حده الأدنى، بين الفاعلين السياسيين في الدول التي تحترم نفسَها وتعمل على جعْل التنافس الشريف قاعدةَ أساسية لديموقراطياتها وأشكال تنافسها السياسي! 

ولطالما قمتُ أيضا، مع نفسي، بقلب الصورة والمشهد عن عَمْدٍ وعكسِهما تماما، إذ أجعل من "فأر اللعبة" أحيانا كائنا خارقا وأذكى مما نتصوره نحن الذين نبحث فقط عن فرجة عابرة وهاربة، أو عن "ضربةِ حظ" وعن معنى مباشر ووحيد للأشياء والوقائع والأحداث، بحيث يكون "الفأر الدَّايَخ" (تاجر السياسة بالتقسيط) هذه المرة هو صاحب اللعبة نفسِه والمتحكم في خيوطها و "قواعدها" بالأساس، وهو اللاعب الفائز الحقيقي والوحيد في اللعبة (أكثر من تاجر السياسة بالجُملة)، خصوصا حين تكون مواهبه خارقة وذكاؤه "السياسي" مثل شهيته مفتوحة على الآخِر كما يقال وفي كل الاتجاهات؟ فيصبح هو من يقوم بـ"مَخْضِ" الآخرين و"قَلْقَلتهم" في كل الاتجاهات، مما يجعله يختار أو يهتدي كل مرة بذكاء خارق إلى "رقمه" الرابح و "الصندوق الحزبي المحظوظ" ويتوكل على الله ...!

ربما يكون في هذا الأمر بِرُمَّته من الأسرار ما لا يعرفه غير "النْواقْسِية"، و"الطرايرية"، و"الدْقايْقية"، و"البْنَادْرية"، و"التْعًارِجية"، و"الفْراقشِية" و"النْواعْرية"... وبعض "الراسخين في العِلم" ودهاليز السياسة؟ هؤلاء الذين "يشُمُّونها وهي طايْرَة " كما يقال، ويعرفون دائما اتجاهاتِ الرّياح المؤاتية والأرقام الرابحة في كل لعبة، ويعرفون أيضا متى "يدخُل الفأر المطلوب في الصندوق المطلوب"، وكيف يصبح المرء "لاعبا محترفا في سبعة أيام"؟ لكن اللعبة أحيانا قد لا تتطلب كل هذا المجهود الذكي ووجَع الدماغ، تحتاج فقط إلى لحية أو "قَرفادة" أو "سنْطيحَة"، وإلى القليل من "الوَرع" المدهون بزيت "التّقوى"، كي تحصل البركة والحركة ويتحقق المطلوب... هذه الوصفة أيضا أكدتْ نجاعَتها في المشهد السياسي المغربي المُهجَّن حتى النخاع، والكثير من المتنفّعين ببركاتها ومفعولها السحري ينصحون بها أقربَ الأقرباء إليهم، ويصفونها لذويهم وأبناء عمومتهم وبني جِلدَتِهم كدواء لعلاج الفقر وجميع العلل والأمراض المزمنة، أولائك الذين يتكلمون "لغة العائلة" أو القبيلة ويفهمون إشاراتها، ويجلسون على طرف البلاد وروابيها الجميلة ينتظرون "خَراجَ الغيْمة"، ولو اتجهتْ بعيدا في الأفق؟ تماما كما جاء في القول المأثور للخليفة العباسي هارون الرشيد ذات زمن بعيد، وهو يخاطب السحابةَ أو الغيمة المُبتعِدة عن العراق الذي كان مركز إمبراطورية إسلامية ممتدة: "أمطري حيثُ شئتِ فسوفَ يأتيني خراجُك"، بمعنى أن السياسي عندنا سوف يحصُد، لا مَحالة، ثمار ما يستثمره من مال وأفعال في بورصة السياسة المربحة، وما أجْمَلَ مَكْرَ التاريخ ... وما أشْبَهَ اليومَ بالبارِحة ...!  

كل هذه الأشياء لا تحتاج إلى عناء كبير كي نفهمها أو نجد لها مقابلا رمزيا في فضائنا وواقعنا السياسي الوطني، فقط يحتاج المواطن أو القارئ والمتتبع إلى القليل من الفطنة والتأمل وبُعد النظر وممارسة لعبة قلب الأدوار والمواقع كي تبدو له ألعاب "السْويرتي" كلها واقعا مجسدا في مجاله السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على حد سواء، وحتى إذا افترضنا أن كل قارئ وكل مواطن تَعَرّف أيضا في فضائه المحلي أو الوطني على ما يقابل في الواقع شخصيات وألعاب هذا "السْويرتي" السياسي المغربي المتحول، فإن "الربح" أو "المكاسب" التي يمكن لهذا المواطن أن يجنيها من "اللعبة"، تظل، مع ذلك زهيدةً ومن دون قيمة تُذكَر، مقارَنةَ مع ما يجنيه العارضون السياسيون واللاعبون الكبار .. مع ذلك، سيظل الشعار دائما في هذا المعرض السياسي المغربي الكبير هو: "سْويرتي مُولانا ... والرّبْحة مُوسْ وَلاَّ مَكَانا..."، إلى أن يَثبُتَ العكس ...؟