قضايا

الفرار إلى الله

كمال أشكوري

في فيلم «أرمجدون» (1998) يكتشف العلماء نيزكا يوشك أن يصطدم بالأرض، مما يعرض الحياة على الكوكب للفناء، فتقرر الإدارة الوطنية الأمريكية للملاحة الجوية والفضاء «ناسا» تشكيل فريق من المتطوعين، لاعتراض المذنب وتفجيره، قبل دخوله الغلاف الجوي للأرض.

وبهذه المناسبة يلقي الرئيس الأمريكي، الذي اختير له اسم ترومان، خطابا إلى الملايين من البشر يعلن فيه قرب نهاية العالم، مستخدما كلمة أرمجدون للتعبير عما يحدث، ويؤكد أن من سوء حظ المذنب أنه جاء في وقت بلغت التكنولوجيا أوج قوتها، مما يجعلها قادرة على التصدي لكل الأخطار المحدقة بالكوكب!

يبدأ الفيلم بنيران المذنب تتساقط على مدينة نيويورك، اعتقد سائق طاكسي أنه قصف من الرئيس الأسبق صدام حسين، في مشهد اتخذ فيه المخرج موقفا مسبقا من رؤيته لمعركته ومن نهاية العالم «أرمجدون»، الذي يسود فيه الشر، وبداية العالم النقي الصفي الذي تشكل التكنولوجيا عمدته والتصور التوراتي روحه. حضر بروس ويليس وغابت مكة!

واستدعيت كل الأماكن لتشهد براءة ترومان من القصف الذري، على هيروشيما وناجازاكي!

قبل ذلك بعام، (1997)، كان ليوناردو دي كابريو في لعبة أتقنها بكل احترافية على سفينة «تايتانيك»، يصور أكبر مشهد يتلاعب بمشاعر الملايين من المشاهدين جعلهم يتعاطفون معه ومع من قيل إنها حبيبته، ومع من تركز عليه الأضواء ومن يتصدر التريند، ويتناسون المئات ممن غرقوا معه في السفينة، لمجرد أن أنغام سيلين زادت المشهد حزنا وحبا..

واليوم، يرجع ليوناردو في فيلم «لا تنظر إلى السماء» (2021)، ليصحح خطأه في سفينة الوهم، وليخبر رئيسة الولايات المتحدة بمذنب قادم سيقضي على الحياة على كوكبنا.

القصة نفسها، لكن 2021 ليست هي 1998.. والإله الذي عول عليه ترومان للتصدي لغضب الفضاء، خانه وخان الملايين الذين وثقوا في التكنولوجيا.. لكنه لم يخن سادة العالم الجدد، سلاطين البيغ داتا قاهري أزمنة وعقليات «البرابول».

وعدو الأمس ليس عدو اليوم.. فحضرت فتاة بحجابها تتضرع لله، ورئيسة أقوى دولة في العالم تستعد لتدمير المذنب ليس حبا في الحياة، بل حبا في حياة بالبيت الأبيض..

حبا في هواتف نقلت كل شيء، إلا ذاك البعد الذي قال عنه رب العزة: «إلا من أتاه بقلب سليم».

في الوقت الذي يوشك فيه العالم أن يفنى، تصر رئيسة الولايات المتحدة على أن صورتها وهي تدخن، أهم بكثير من اكتشاف علمي ينذر بفناء الجنس البشري.. عالم تتصدر فيه التفاهة كل شيء، عالم رأى في خبر علمي محسوب بالرياضيات وينذر بفناء الكوكب، أقل شأنا من حياة مجموعة من التافهين، عالم خان العلم عندما وجَّهه وجهة غير وجهته النبيلة. فرق كبير بين الزمنين. القارعة قادمة.. والركون للدنيا أقوى وأشد.

تقرر الرئيسة أخيرا إرسال فريق لتدمير المذنب، لكن هناك من أوحى إليها أن على المذنب معادن ثمينة، ولم يسألوا ما قيمة المال إذا كنت ستموت؟

يضرب المذنب ويفر علية القوم ليهلكوا في عالم لا يعترف بالغرور ولا بـ«أوتيته على علم من عندي»!

ينتهي الفيلم بصلوات تتلى، تعيد الإنسانية إلى طريقها الطبيعي الذي يشكل فيه الإيمان المنهل الأوحد لقيم الخير والسلم والأمان، تماما كما فعل ميل غيبسون في فيلم «إشارات» (2002)، وهو يتذكر وصية زوجته: «اضرب بقوة»، فضرب.

إن انحراف البشرية لم يبدأ في الملاهي والمراقص ودور الدعارة، بل بدأ في مختبرات البحث والعلم. البشرية ليست فقط في مواجهة اختفائها، بل هي في طريق الاختفاء!

«فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».