تحليل

التردد لا يصنع التقدم

ابراهيم أقنسوس

بارات كثيرة نستعملها، ويسهل رصدها، تتكلف بتوصيف واقعنا والدلالة على تفاعلنا المتردد وغير الجاد مع قضايانا الأساس، عبارات نشير منها إلى الصيغ التالية: البين بين ـــ البون الشاسع بين النظري والواقعي ـــ لسان الحال ولسان المقال ـــ القول بلا فعل، الشفوي والعملي، وكلها عبارات تفيد التردد، وتعني التوقف عند حدود الكلام، وعدم الجدية في مباشرة القضايا بالشكل اللائق، والعزم المطلوب، والعودة في كل مرة إلى النقطة الصفر، وهذه نماذج حية وصور دالة لترددنا في مجمل قضايانا الجوهرية والراهنة.

في السياسة كما الثقافة، نتحدث عن الديمقراطية ونفاخر باستعمال مفرداتها، ويزايد بعضنا على بعض في امتلاك النصيب الأوفى منها، وحين يجد الجد نمارس الاستبداد ونخرج ما عندنا من مخزون العنف والإقصاء، والرغبة في الغلبة والظهور، بلا استحقاق. نتحدث عن الفصل بين السلط (التشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية)، وندبج الحوارات والبلاغات واللافتات، وعند أول اختبار لكل هذه الحمولة، ننسى كل شيء، ونتجه مباشرة إلى لغة التعليمات، والعصبيات والمكالمات، والتهديدات الظاهرة والباطنة، ونأتي إلى الصحافة، إلى (السلطة) الأضعف عندنا، ونريدها ملحقة تابعة، ضرورة ولزوما، لهذه الجهة أو تلك، رغبة ورهبة.

نتحدث عن حكومة مسؤولة، ثم لا نجد وزارة تقوى على مباشرة صلاحياتها كاملة لتتم محاسبتها على ما تتخذه من تدابير وفق مراسيم واضحة، ونفاضل بين وزارة وأخرى، ونقدم وزراء على آخرين، ونرفع من وزارات بعينها مقابل تحجيم أخريات.

نتحدث عن أهمية الأحزاب السياسية ودورها الريادي في بناء الديمقراطية، ونقول إن الديمقراطية هي دولة الأحزاب، ثم نتدخل بأشكال شتى لاختيار هذه القيادة أو تلك، ورسم هذه الخطوط والاختيارات أو تلك، ونؤشر على صلاحية أحزاب بعينها، ونعلن انتهاء صلاحية هيئات أخرى وندفع بها إلى التلاشي، والاندثار الاضطراري، ولدواعي غير واضحة لا يفهمها إلا القائمون على هذه التخريجات التي لا نرى إلا نتائجها الأخيرة، هياكل أحزاب، تفتقد كفاءة النظر وروح الاقتراح الخلاق، حيث تستشري الأمية الفكرية والسياسية، وتنتشر دعاوى المصالح والامتيازات الشخصية، ما يعني في المحصلة النهائية انتخابات صورية، وهيئات لا تحكم ولا تحاسب على شيء.

نتحدث عن مشكل التعليم وأولويته بالنسبة إلى بلادنا، ويدعي كل طرف حرصه على مصير هذا القطاع الحيوي، ثم نستمر جميعا في تهميش المدرسة العمومية، ونتردد طويلا في مواجهة قضاياها ومعالجتها بالشكل الصحيح والصريح، ويفضل معظمنا طلب حماية أبنائه في التعليم الخصوصي، في الداخل والخارج. ثم لا شيء بعدها إلا الكلام.

نتحدث عن محاربة الفساد، ونختار من الكلمات أقواها، ثم لا نقوى على متابعة مختلسي ثرواتنا، ونتردد في استصدار قانون تفصيلي واضح وصريح، يتابع ويعاقب ناهبي الثروات ومختلسي الميزانيات ومحترفي الإثراء غير المشروع.

هذه عينات دالة على ما تشهده مؤسساتنا الأساس من تردد واضح، نعيش على إيقاعه وآثاره دون أن نجد له تفسيرا معقولا، عدا الرغبة في إدامة التوقف عند نقطة البداية ونسخ الكثير من الجهود التي بذلها شرفاء هذا الوطن وأرادوا بها خيرا لهذا البلد وقضاياه.