رأي

عز الدين بونيت: تقرقيب الناب..

هذا ما وفقت إلى أن أنعت به ما يجري هذه الأيام في مكتب السيد وزير الثقافة المغربي. هذا الرجل الذي سبق لي ان التقيت به وتبادلت معه اطراف الحديث ووجهات النظر، في ضيافة اصدقائنا في المرصد الوطني للسياسات الثقافية، قبل ان يصبح وزيرا للثقافة. وكونت عنه انطباعا إيجابيا، بشأن رؤاه وتصوراته بخصوص "المشهد الثقافي" الوطني. (أستعمل عبارة المشهد الثقافي، في تفاعل مع التخصص الجغرافي  للوزير الذي أخاطبه)
مع كل حسن النية الذي يمكن أن نحتفظ به للسيد الوزير، في فعله وقوله السياسي هذه الأيام، بعد ان استتب له الأمر وانطلق في "العناية" بقطاع الثقافة الذي يوجد ضمن عهدته الى جانب قطاع الشباب والرياضة، لا يمكن لعين المتابع أن تخطئ إصراره على التراجع بالفعل السياسي في المجال الثقافي عقودا الى الوراء.
هذا وزير يصر على أن نيته هي النهوض بالقطاع وتحسين ظروف عمل العاملين فيه والعناية بأوضاع الهشاشة التي يعاني منها الفنانون الرواد، لكن سلوكه السياسي لا يوازي قوله، ولا يسير معه على نفس الخط من حسن النية والتطلع الى المستقبل بجد وجدية. هو ذا يعلن ان وزارته قد فتحت باب الحوار مع من يسميهم بالفاعلين الثقافيين و الهيئات الفنية الجادة، دون ان يعلن عن لائحة لهذه الهيئات ولا المعايير التي اعتمدها في اضفاء صفة الجدية عليها، ولا المعايير التي استند إليها في تحديد درجة تمثيلية هذه الهيئات. ولم يعلن عن أي جدول اعمال لما يسميه بالحوار، ولا عن منهجية ملموسة للحوار.
كل ما فعله الوزير "حسن النية"، هو استدراج بعض الأشخاص، "ذوي النية الحسنة" من جهتهم، الى لقاءات يشترط عليهم ان يأتوا اليها فرادى،. ثم يحيط بهم هو وأعوانه، ويلتقط معهم صورا للمناسبة، ويطلب منهم ان يسلموه "مطالبهم" و"تصوراتهم"، ويعدهم انه سينظر فيها.. وقد يسلمهم في النهاية بلاغا يطلب منهم ان يوقعوه ويصدروه منفردين، باعتباره يلخص اهم المحاور التي تم "التباحث" في شأنها؛ وحتى اذا كان لا يسلمهم اي بلاغ، فلا شك انه يوحي لهم بأنه سيزداد رضى عنهم اكثر مما هو راض الآن، لو أصدروا مثل ذلك البلاغ. ثم يسارع من جهته إلى الاعلان عن فحوى اللقاء، إعلانا يجعل منه مجرد لقاء مجاملة واستماع وبوح، ويقول إنه أخذ علما لمطالب وتصورات تلك الهيئات "الجادة"، بينما الهيئات المسكينة إياها تنوه باللقاء وتعلن اتفاقات وخلاصات غير موجودة. فإما ان الوزير يكذب حول مضمون لقائه بالهيئات الجادة، وإما أن الهيئات هي التي تكذب.. إذا كذب الوزير فهذا جزء من متطلبات مهمته السياسية، ولا لوم عليه، أما إذا كذبت الهيئة الجادة، فهذه خيانة لأعضائها وللساحة الفنية التي تدعي انها تمثلها وطعن في الظهر لكل العاملين في القطاع الفني والثقافي.
شخصيا، لا ألوم الوزير على تنكيله بهذا الشكل بهيئاته الجادة، بجعلها مثارا للسخرية، ونموذجا لعدم النضج والسذاجة السياسيين، بل ألوم تلك الهيئات "الجادة" ذات النية الحسنة، التي تقبل مثل هذا التنكيل وهي سعيدة راضية مستبشرة.
ما ألوم عليه الوزير وأنتقده بشدة، هو لجوءه الى أسلوب سياسوي لا يساير زمننا السياسي المأمول. لا أعرف اي تحليل سياسي بنى عليه الوزير "منهجه" في التعامل مع الساحة الثقافية والمنظمات العاملة فيها، ولا سيما في الواجهة النقابية الفنية. لا أستطيع أن اتبين ما هي "الحكمة" أو المصلحة السياسية التي تدفع الوزير إلى محاولة تهميش أو تقزيم  تنظيمات نقابية جادة بالفعل وديمقراطية في تدبيرها لقراراتها، تنظم العاملين في القطاع الفني وتؤطرهم كما يلزمها الدستور بذلك ، ومنخرطة في بناء عقلاني للسياسات الثقافية الوطنية بدون مزايدات منذ أكثر من عقدين، من خلال سلوكات  باهتة في محتواها السياسي، وتفتقر الى بعد النظر الذي يحتاجه حقا كل فاعل سياسي جاد في بلدنا اليوم.
كيف يفرض الوزير على محاوريه ان يأتوا فرادى، بينما هو محاط بأعوانه؟ هل يتعلق الأمر بتقدير فعلي لمسؤولية هذه "القيادات" التي لا تصحب معها شهودا يشهدون على ما تم تبادله بين الطرفين؟  كيف نحصن مثل هذه اللقاءات من القيل و القال ونجعلها مرتكزا لعمل جاد ونحن ننفرد بهذا "القائد" أو ذاك؟ لماذا هذا الشرط الضار بجوهر الشفافية المسؤولية؟ هل يريد الوزير حقا محاورة العاملين في القطاعات الفنية؟
كيف يغفل الوزير عن أن ما ينتظره العاملون في القطاع الثقافي ليس لقاءات لتبليغ تظلمات سيأخذها "الحاكم بأمره العادل" بعين الاعتبار بعد ذلك، بل حوارا اجتماعيا، يهم القوت اليومي للعاملين في القطاع الفني، وحوارا حول السياسات الثقافية التي ستسمح بتحسين ظروف عمل المهنيين الفنيين؟ لماذا يعتقد الوزير أنه قادر على در الرماد في العيون بمثل هذه الحركات البهلوانية التي لا ترقى إلى مستوى ما ينتظره من وزير يدرك مسؤولياته؟ هل يعتقد الوزير أن المس بملف مثل سياسة الدعم مجرد إجراء تقني؟ إذا كان الأمر كذلك، فليسمح لي أن أقول له إنه بعيد جدا عن إدراك طبيعة ملفات القطاع الذي يشرف عليه، وأنصحه ان يغير المحيط الذي يستشيره في هذا الباب. أما إذا كان لا يستشير أحدا فتلك مصيبة وأي مصيبة.
ومن جهة أخرى، لست متأكدا مما إذا كان الوزير "حسن النية" يدرك المخاطر الحقيقية التي تحدث بمشهدنا الثقافي والإعلامي من جراء المنافسة الدولية الشديدة والاختراقات المتواصلة لفضائنا العمومي بلغتنا ومحتوياتنا، المصنوعة والمبثوثة في اصقاع بعيدة عنا، رغما عنا، مما يهدد منظومتنا الإعلامية بعجز دائم، بل وبخراب وإفلاس مؤكدين على المدى المنظور. بينما الوزير "حسن النية" يسعى محبورا إلى تقديم خدمة غير متوقعة لهذا الاختراق و القوى الواقفة وراءه من الخليج ومن امريكا، بتخريب أسواره الدفاعية الأخيرة المتمثلة في تنظيم نقابي قوي قادر على تأطير الساحة الفنية و تحصين الفنانين ضد عمليات النهب التي يتعرض لها بلدنا في المجال الفني.
لا أستطيع ان افهم المنطق الذي يجعل الوزير "حسن النية" يفكر ان نجاحه السياسي يكمن في تخريب القطاع الذي يشرف عليه بكل ما أوتي من "الذكاء" السياسي البالغ حد الرعونة.
سيدي الوزير "الحسن النية"، الوقت ليس للمناورات السياسوية العقيمة. الوقت هو اليقظة والبناء الجاد والمسؤول للمستقبل. وأسلوبك الذي دشنته هذه الأيام، لن يمكنك ولن يمكن المغرب من سياسة ثقافية حقيقية. حلفاؤك الموضوعيون هم الناقابات الجادة حقا، والجدية ليست صفة تطلقها انت او من يحيط بك من الأعوان، بل يحددها الفعل الملموس  في الواقع الملموس. وهذا معيار لو استندت اليه، فلا يمكنك أن تخطئ الطريق الى حلفائك الحقيقيين.
#الانتهازيون_التخريبيون_لا_يمثلونني