رأي

ادريس الروخ: عدو المسرح

منذ سنوات طويلة وحلمي في الاشتغال على مسرحية عدو الشعب لأبسن ( الكاتب النرويجي المثير للجدل ..وربما الأكثر اثارة بعد شكسبير ) يزداد يوما بعد يوم وقد وصل بي الحلم لأن اقدم المسرحية في مشروع لمؤسسة مسرحية ببلادي وثم رفضه بدون سبب مقنع ، وبالتالي تبخر الحلم آنذاك وتلاشى في النسيان ..
وربما ما يميز هذا العمل المسرحي الفريد من نوعه والذي كان جوابا صريحا على منتقدي إبسن بعد ان كتب مسرحية الأشباح والتي عرى فيها عن حقائق تمس القيم الاجتماعية وتفشي الفساد والأمراض التناسلية (..)
كتب (عدو الشعب )للدفاع عن مصالح الطبقات الضعيفة اجتماعيًا واقتصاديا بسب ضغط السلطة المنتفعة ماديا على المصلحة العامة وخلق مغالطات وبثها في رؤوس البسطاء من الناس من اجل كسب المزيد من الثقة وفي نفس الوقت المزيد من النفوذ والكثير من الامتيازات ..
هذه المسرحية هي رد صريح على كل الآراء والأفكار المغلوطة في كون الأغلبية هي على حق وان الأقلية لا تمثل الصواب .. مفارقة تجعلنا نفهم ان الحياة ليس عادلة من هذا المنظور .. وان منطق الفوز بالأغلبية مجرد إشاعة سياسية وانتخباوية تكرس لمفاهيم خاطئة للربح على حساب مصلحة الفرد والمجتمع ..
وإذا كانت الديمقراطية تجعلنا نؤمن بان فوز حزب في استحقاقات ما يرجع بالأساس الى مرجعية رقمية بغض النظر عن فاعلية هدا الأخير وقدرته على بناء المجتمع ثقافيا واقتصاديا وتعليميًا وحمله على الرقي والسمو والازدهار بدلا من وضعه في خانة المستعين بهم اثناء الحاجة .. ان وضعا مثل هذا يكرس لمفهوم رداءة الحياة العامة عند المواطن بدلا من الإصرار على تسيير اموره من باب المسؤولية و بطريقة ذكية وعادلة وبدون منفعة ذاتية .. لو تمعنا قليلا في (عدو الشعب ) لوجدنا ان الدكتور توماس ستوكمان الذي حاول بكل ما لديه من قناعة ان يدافع عن حق الآخرين وان يكون لسانهم في إظهار الحقيقة وان يبرهن بكل الأدلة العلمية ان حمامات السباحة في بلدته تستعمل مياها غير صالحة للاستحمام مصدرها مصنع الجلد القريب منها وهي مضرة بصحة المواطن .. و بالرغم من مواجهة أخيه عمدة المدينة له واتهامه بالحمق وإثارة الفتنة في صفوف الشعب .. الا انه ( الدكتور توماس ستوكمان) لم يكثرت لكل ذلك وأصر على ان يكون الاستثناء وعائلته في الدفاع عن مصالح مواطنيه ...ايمانا منه بان الحقيقة لابد لها ان تظهر يوما ما .
ان المسرح عامة هو الرغبة في فتح باب الأمل لمجتمع يشعر بخيبة تجاه ما يعانيه من قهر وإقصاء داخل منظومة تشاركية مبتورة اصطلاحيًا و غير متوازنة سياسيا .. ان المسرح هو ذلك الميزان الذي يعادل بين كفة الحلم وكفة الواقع .. لخلق توافق بين الرغبة والفعل.. بين الفكرة في المتخيل والمنجز في الواقع.. بين العدل والعدالة.. الخ
كل الذين يشتغلون في حقل المسرح الشاسع يرغبون في التغيير ( فالمسرح جاء أساسًا يحمل على عاتقه قيم التغيير ) يرغبون في طرح الكثير من الأسئلة وجوديا وفلسفيا واجتماعيًا واقتصاديا وجماليًا ..الخ... يرغبون في اثارة الشك ( اليس الشك يوصل الى اليقين على حد تعبير ديكارت ) شك يوصلك الى معرفة الحقيقة ..فإما ان تنتشي بها او تتحمل مسؤولية وتبعيات بحثك عنها ( كما حدث مع اوديب)
الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة .. والمسرح ابو الحقائق وان كان المعتقد انه وجد للتسلية - وهذا خاطىء شائع -فدوره يتعدى ذلك بكثير ، وربما هذا هو سبب انتشاره على مر العصور والأزمان وتفاعل العديد من الثقافات مع جاذبيته التي لاتزال تأثر في عقل وقلب الفرد ..فتبعته رسولا للجمال ومبشرا للفعل المستقبلي ..يثور ..ينتفض ..يواجه أعداء المسرح أينما كانوا ..يبطل أكاذيبهم و..يفشل محاولاتهم البائسة في خلق الفتنة والفوضى في صفوف عقول نيرة ..
المسرح هو المصباح الحقيقي الذي لا تنطفىء ناره أبدًا ..فهو شعلة مضيئة ..دافئة .. ومنيرة لطريق الضالين عن طريق الفن والجمال .