قضايا

حقوق الإنسان والتنمية، أية علاقة؟...

عائشة العلوي

الإنسان يختلف عن باقي الكائنات الحية، إنه منظومة متعددة الأبعاد (dimensions) منها المادية (matériel)، البيولوجية (biologie)، الوراثية (génétique)، الروحية (spirituel)، والنفسية (psychologique)، والاجتماعية (social). كل بعد من هذه الأبعاد الست يحدد الأبعاد الأخرى ويؤثر فيها. كيف يمكن الحديث -في النموذج التنموي- عن التنمية البشرية، أو عن تطوير الكفاءات والمهارات، أو عن الرفع من مستوى الوعي ومنسوب الثقة، أو غيرها من القضايا المتعلقة بالإنسان دون استحضار كل هذه الأبعاد ومستويات تأثيرها وتأثرها؟

منذ الأزمنة الغابرة والحاضرة في أنماط متعددة من حياة الإنسان المعاصر، حاول الفيلسوف والمتدين والسياسي والقاضي والفنان والشاعر والاقتصادي والاجتماعي وغيرهم البحث عن القوانين المثلى لتحقيق كرامة الإنسان مستحضرين ماهيته في بعض أو جل من الأبعاد المكونة لها حتى يتمكن من العيش في الجماعة بسلم وأمان، أو من تحقيق سموه ورفاه الفردي، أو من هما معا.

إن الرغبة في العيش المشترك والضرورة المنطقية لذلك جعلت الإرادة الجماعية، في عدة محطات من التاريخ البشري، تصطدم بالأنانية والرغبة في السيطرة والخلود لفئة أو لفرد. فكان المد والجزر. فكانت الحروب والأزمات. فالتطور، ليس بالمنحنى المستقيم والتصاعدي. إنه ذلك المنحنى اللولبي الذي يعرف ارتفاعا وانخفاضا، وأحيانا عديدة تغيرا للمسار. فليس في التاريخ الإنساني نموذج مثالي أو نماذج مثالية لتكون مرجعية أزلية للاستناد عليها والرجوع إليها حينما تشتد الصراعات والأزمات وتتفاقم التفاوتات؛ وأي محاولة في ذلك، لا يمكن اعتبارها إلاَّ محاولة لجَرّ حاضرنا ومستقبلنا إليها والخضوع لغاياتها وكأنها أرقى التصورات والإنتاجات التي وصل إليها الإنسان.

المنطق والذكاء والإدراك والحس والسُمو والحب والرغبة، عناصر فاعلة لوضع قوانين ومواثيق وعهود وسنن لتجمع المشترك والفرداني؛ لتخلق توازنا يرقى بالإنسان ليحترم ذاته في أبعادها وضمن نسق يحترم المجموعة وخاصة أن عدد السكان في تزايد مستمر. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو الحد الأدنى الذي يمكنه أن يضمن التعايش بين الفرد والجماعة، مستعملا لغة تحاول نسج مختلف العناصر المكونة للإنسان.

البحث عن النموذج التنموي يقتضي أن يرتكز على الإنسان ومن أجل الإنسان. لبلوغ هذه الغاية، عليه أن يدمج بعض حقوق الإنسان في مختلف مراحل وضعه وإنجازه. أكيد أنه لن يكون مثاليا وخالدا، لأنه وبكل بساطة يبقى نموذجا لزمن بإكراهاته ومتطلباته. أما غاية العيش المشترك في أمن وسلام يبقى حلما إنسانيا (ن)حاول "جميعا" جاهدين الوصول إليه.

حياة الإنسان تطورت. حقوق الإنسان تطورت. شروط الإنسان المادية والمعنوية تغيرت وتطورت. هناك صعود ونزول، بيد أن المسار العام متغير ومختلف عن همجية الإنسان في القرون الغابرة وعن، أيضا، طرقه في الدفاع عن إنسانيته. لم يكن هناك توثيق رقمي كما يعرفه العالم اليوم لرصد وقائع الماضي الذي سنجد أنه كان أكثر إيلاما وقسوة من حاضرنا "اليوم". لا نعرف كم عدد الأفراد الذين قتلوا وعُذبوا واضطهدوا واحتقروا من أجل صنع حاضرنا، الذي لا يُمكنه أن يكون إلاّ حاضراً أكثر إشراقاً من الماضي. اليقين أن الإنسان ماضٍ نحو تحقيق إنسانيته ورفاهه الجماعي والفردي رغم كل الأزمات والصعاب. فمنظومة الإنسان الروحية والعاطفية والمادية والاجتماعية ستمكنه من تحقيق التوازن بين كل هذه الأبعاد لينتج نموذجا تنمويا يضمن الرفاه الفردي والجماعي دون إغفالٍ للتوازن البيئي.

لا يمكن وَقْف الظلم والجشع والأنانية والكراهية، لكن يمكن تقوية وتعزيز الذكاء الجماعي للمراقبة والمحاسبة والعقاب حتى يتم التمكن من تكوين مواطن بمفهومه الكوني والشمولي، خارج نطاق الحدود، مادام أن السؤال المقلق-المشترك المطروح على الجميع: كيف يمكن ضمان وجودنا المادي في هذا الكون وتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي والبيئي دون التزام فعلي للاهتمام بالإنسان والحفاض على البيئة؟ الجواب القطعي هو: لا يمكن تحقيق التنمية دون إدراج لحقوق الإنسان بنظرة دامجة وشاملة في مختلف المجالات.

*أستاذة باحثة في الاقتصاد ورئيسة مركز تيهيا لحقوق الإنسان والديموقراطية والتنمية