رأي

عبد الصمد بنشريف: مطر في الذاكرة

يذكرني مطر الصباح بطفل السبع سنوات الذي كنته. بمحفظة الأمل التي كان يحملها. بالمسافة التي كان يقطعها مشيا على الأقدام. بالطريق الصخري المدجج بكل الاحتمالات. بانسياب الماء في الوادي الكبير، وهو في أقصى درجات اللمعان . بالوجه الغض الملسوع بوخزات برد أصبح بمثابة رفيق على امتداد الطريق . بالأصابع الهشة والطرية وهي تقاوم وتكابد.
 يذكرني مطر الصباح، بقامة ذلك الطفل وهي تغوص عميقا في أفق بدون ضمانات، وتتلاشى كلما توغلت في ضباب المستقبل . بمحتوى تلك المحفظة ، ما يسد الرمق ولوحة صغيرة، وقلم رصاص، وبعض الأحلام الجنينية، التي كانت تتشكل في صمت.
 يذكرني مطر الصباح بأمي التي كانت تسيقظ باكرا لتعد فطورا متواضعا، ولتضخ في الطفل الذي كنته جرعة من حنان وعناد وتحفيز. بأمي وهي تتفانى في إطعام ما كنا نملكه من حيوانات في ذلك المنزل الريفي، والتي كانت جزءا من حياتنا ووجودنا.
 يذكرني مطر الصباح بأبي وهو يرتل القرآن، ويردد بعض الأمداح، وينشد بعض الأبيات الشعرية، ويتأهب للإستماع إلى أول نشرة إخبارية، بعد أن تتناهى إلى سمعه تلك اللازمة الشهيرة "عند الإشارة تكون الساعة. ...".
يذكرني مطر الصباح بصوت العصافير وهي تطير وتحلق بحثا عن ملاذ دافئ. بنباح الكلاب المنتشرة في كل مكان ، والساهرة على أمن القرية . بالرعاة في الجبال القريبة يلتحفون صبرهم وصلابتهم . بالأرض وقد أخضرت وبالأشجار وقد أينعت . بملامح وتضاريس فرح خفيف كان يرتسم على وجوه الفلاحين. بأشجار اللوز وهي تنتظر اللحظة التي ستزهر فيها وترتدي أكاليل بيضاء .
 يذكرني مطر الصباح بصوت شاحنة يتيمة، كان صوت محركها المتعب، يحتكر فضاء المنطقة كلها، وهي تبذل مجهودا خرافيا لتصل إلى حيث تريد .
 يذكرني مطر الصباح، بتلك الصور التي كانت تؤثث الفصل الدراسي، وكانت ألوانها الزاهية جذابة وساحرة ، صور الجزار والحلاق والفاكهاني والعصافير، وتلك البقرة الرشيقة، وذلك الفرس الجامح . كل تلك الصور، كانت تثيرني وتستفزني، و كانت أحيانا تبدد تركيزي.
 يذكرني مطر الصباح بهيبة المعلم وهندامه النظيف والأنيق، وبسلطته التي كانت تطاردنا حتى في القرية.
 يذكرني مطر الصباح، بسماء وأرض وهواء وشمس وأصوات وروائح ووجوه ولغة وصور لا توجد إلا في الذاكرة.