رأي

محمد بودويك: إلى الشاعر أحمد المجاطي في ذكراه

لست أدري لماذا كلما هممت بالكتابة عنك، وبصياغة مقال أو دراسة نقدية حول شعرك الوارف البديع، المغرد واللاسع، أرجأَ الهمة والعزم، طارئٌ أو عارض أو مستجد لا يخرج عن عريض وشساعة وإشعاع شخصك، ورفيع شعرك، وهيمنة ظلك وأستاذيتك لي. فكأنما الإرجاء والتبعيد عزائي وسلواي وحذري من مطب السقوط في المديح المجاني، والدراسة المتسرعة الشاحبة، والصوغ اللغوي المرتبك والمتهافت عن شعرك وفكرك، وميزانك الذي لا يبارى بمعرفتك الغواصة، وعلمك الغزير، وتمكنك الكبير والمحيط بعلم العروض أنت الذي كنت تزن القصيد والموشح المؤدى من قبل المغني والمغنية، بل وتضع اليد غيبا على ما اعتراه من زحافات وعلل، لا يستطيعها إلا ممارس متبحر ومبدع، وشاعر هائل من معدنك وطينتك.
ربما يكون ذلك سببا كافيا، ومبررا مقبولا وضافيا، يجعلك تستبطئني دائما، وتغفر لي زلتي وعثرتي، وعقوقي الأدبي ردحا زمنيا طال واستطال حتى أوفى على ربع القرن منذ طوتك يد المنون، وغيبك اللحد البارد، وغمرك أو كاد نسيان الأحبة والخلان والطلبة، والزملاء في الحياة والشعر والنضال.
كان أول عهدي بمعرفتك، أستاذي أحمد، سؤالي لك داخل المدرج الجامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس العام 1974 عن رأيك كشاعر فيمن تميل كفته الشعرية، ويسمق جماليا ولغويا ورياديا: هل هو السياب أم البياتي، أم أدونيس، أم درويش؟. إذ أن دواوينهم الشعرية كانت تملأ نقاشيا الرحب والساحات الجامعية، والمدرجات. يتعلق الأمر بالدواوين التالية: " شناشيل ابنة الجلبي "، و " منزل الأقنان "، و" المعبد الغريق " للسياب. و" أباريق مهشمة "، و" عيون الكلاب الميتة "، و" بكائية إلى شمس حزيران " للبياتي. و " أوراق في الريح "، و" أغاني مهيار الدمشقي "، و" مفرد بصيغة الجمع " لأدونيس. و " عاشق من فلسطين "، و" العصافير تموت في الجليل "، و" حبيبتي تنهض من نومها " لمحمود درويش.
لم تنبس ببنت شفة. أبقيت الجواب طي الصدر والحشا، ونصحتني بمتابعة الدرس الجامعي الذي كان يدور حول شعرية السياب من خلال عمله: ( شناشيل ابنة الجلبي).
لكن لما انتهى الدرس، وخرجنا، تبعتك، من دون أن أفكر في إزعاجك، وملحا في السؤال. ولست أدري لِمَ طرحته أصلا إذ غابت عني ـ الآن ـ أسباب ودواعي طرحه آنئذٍ.
ــ هل قرأت لهؤلاء. وكم من عمل شعري قرأت لهم؟، وما انطباعاتك أنت الأول؟.
باغتني سؤالك. اصطكت له ركبتاي، وأخذتني رعدة وهزة أخرجتني من تعالمي وصفاقتي. لم أحر جوابا. طمأنتني أنهم شعراء، ولكل وجهته، وطريقته، وشأوه الشعري. بعد يومين، أحضرت لي ديوان: ( نهايات الشمال الإفريقي ) للشاعر سعدي يوسف، ونصحتني بان أكب عليه قارئا، مستقرئا، ومستغورا، ووالجا إلى أعماقه، ودهاليزه، وأفضيته.
لم أكن قد قرأت سعدي يوسف بعد، وقد يكون دس أحمد لديوان سعدي في يدي، ووضعي أمام امتحان جديد، آيةً وبرهانا على مكانة سعدي الشعرية في نفس أستاذي الشاعر.هكذا خمنت، وأصبت. فبعد أشهر، وكان المجاطي يغيب لأسباب شخصية وعائلية حيث يمخضه القطار مخضا، وحافلة " الستيام " ذهابا وأيابا من فاس إلى الدار البيضاء، رَجَّني، وأنا في بيته البعيد/ القريب من محطة القطار، بمعية أنور المرتجي، وعبد الهادي خيرات، وعبد الله البوشتاوي، وأستاذ "الرشديات" الراحل جمال الدين العلوي، رجني بسؤاله لي عما أفدته وحصدته من قراءتي لسعدي يوسف، وماذا رأيت فيه؟. قلت بسرعة، وكأنني كنت منتظرا السؤال: حصدت الجديد والجميل والمختلف. غمرني بنظرة حنو ومحبة شعريين، ثم طلب مني نصا شعريا كتبته، إذ أخبرته في سياق آخر، وفي مناسبة أخرى، بانني " أقترف " جريرة الكتابة الشعرية، وأن بعض نصوصي أذيعت، قرأها الشاعر الراحل إدريس الجائي، والمذيعة فريدة النور. أدهشني معرفته بذلك لأنه كان، وهو الشاعر الكبير، أحرص على القراءة والإنصات لما يكتبه الشعراء اليافعون القادمون إلى المشهد الشعري الصعب، وهم زغب الحواصل بحاجة إلى ماء ومرعى، ورعاية، ويد ممدودة.
فرحت فرحة ما بعدها فرحة، وأنا أرى ذات يوم من العام 1975، نصا شعريا مطولا لي، منشورا على الصفحة الأولى، والعنوان بالبنط العريض، بالملحق الثقافي لجريدة " المحرر" الغراء. كان النص يحمل عنوان: ( فاتحة القهر في كتاب الدخول )، وقد ضمه ديواني الشعري الأول: ( جراح دلمون ).
كرم أحمد المجاطي كان بلا حد. عَدَّ النص شعراً، فأخذه إلى الجريد بالدار البيضاء، وطلب من المحررين نشره. وقد أخبرني بذلك صديقي المرحوم الشاعر والصحفي عبد الحميد بنداوود، وهو ـ آنذاك ـ في ميعة الصبا، وشرخ الشباب: كيف كان الأعزاء في جريدة " المحرر" يحتفون بنصوصي، ويوسعون لها حيزا يختارونه بعناية، كأنهم طبقوا وصية أستاذي احمد، واعتبروني شاعرا واعدا يحمل " الغيث والمطر". أنا الذي كنت في بداياتي، وكانت عمتي " الإيديولوجيا"، ولغة التقارير الحزبية تتسرب وتتغلغل كماء الميازيب في كتاباتي الأولى.
وقد فعل المجاطي مع آخرين مثل ما فعل معي. كان كريما مضيافا، وشاعرا حقيقيا لا يشق له غبار. يطلب رأيي وانطباعي ـ أنا المعجب بشعره ـ في ما نشره بالملحق الثقافي للمحرر. يستشيرني في قصائده الجياد، تلك القصائد التي كانت عند نشرها، تشكل حدثا بما في الكلمة من معنى. يدور حولها النقاش، ويستعر، في شأنها، ومن أجلها، الإعجاب والإطناب، والإطراء. أذكر كيف أن قصيدته: ( الدار البيضاء ) التي قرأها في أمسية شعرية باذخة وحافلة إلى جانب شعراء مغاربة معدودين بمكناس، هزت القاعة عن آخرها، تصفيقا وهتافا، أخجلت أحمد المعروف أصلا بخجله، وصمته، وأربكت باقي الشعراء الذين وقفوا تحية له ولشعره. كانت القصيدة تحمل عنوانا آخر قبل أن يعمد الشاعر إلى حذف الجملة الأولى، وهي: حوار مع مدينة الدار البيضاء.
لم يُوفَ حقه كاملا. ولم يُحْتفَ به الاحتفاء الواجب والمطلوب والمنتظر، وهو الشاعر الحولي المنقح الذي كان الخطأ العروضي أو اللغوي البسيط، يجرحه ويؤلمه، ويشكو صاحبه إلينا. وكان يقف، وهو الممحص، على اعطاب عروضية في شعر شعراء تفعيليين عرب كبار، وعلى اعوجاج في لغتهم، وتكرار وشحوب في صورهم ومجازاتهم. وقد يكون نقده هذا، غير المهادن، البعيد عن الإخوانية، وعدم " غض الطرف"، سببا في مجافاة البعض له، وتأليب صدور الغير عليه حيث اتهموه بالغنائية السمجة، ومحاكاة الشعراء الموشحين، والشعراء الكبار كأدونيس، وخليل حاوي، وسعدي يوسف، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل.. الخ.
لكن، وبين أيدينا ديوانه الفاره اليتيم: ( الفروسية )، يكذب ادعاءاتهم، ويسكت تخرصاتهم، وافتراءاتهم، ويشهد له بالتمكن والتجديد، والأصالة والفرادة من حيث بناؤه الشعري الرفيع الذي يسيل بين فروجه ماء الشعر، ويسري في مفاصله وأطوائه، هواء الفردوس الزاهي الذي يزيده خضرة يوما على صدر يوم، يحميه من اليباس، والتآكل والنسيان، فكأنه المسك الذي عناه الأصمعي: كلما فركته طارت رائحته، وازداد ضوعا، وترنح منتشيا كالمخمور متنشقه.