قضايا

الوردي يرد على الجامعي... "البوصلة المفقودة"

رد حكيم الوردي، الباحث القانوني وعضو نادي القضاة، على مقال نشره النقيب الجامعي بخصوص الحكم الصادر على بوعشرين، والذي هاجم فيه الهيأة التي أصدرت الحكم.
رد حكيم الوردي جاء عبر تدوينة، جاء فيها ما يلي:
رحم الله زمن النقباء الكبار، أولئك الذين شيدوا للمحاماة مجدها التليد، بعقيدة مهنية صارمة، وثقافة قانونية موسوعية، ونزاهة فكرية مشهودة تجعل الاختلاف معهم رحمة تقوي مناعة الأمة.
فأن تكون نقيبا للمحامين فذلك غاية المجد المهني الذي بقدر ما يرفعك بين زملائك بقدر ما يطوقك بأمانة واجب الحفاظ على وقار البذلة وهيبتها المكتسبة من وجوب فرض رقابة ذاتية على القلم واللسان حتى لا تزل بقدمهما شهوة حب الظهور نحو مهاوي الشعبوية المقيتة، والديماغوجية البئيسة.
وللأسف فالواقع لم يعد بحاجة إلى دليل، مادامت الأعراف المهنية تتعرض لاغتيال يومي ليس من طرف المبتدئين الذين نلتمس لهم العذر إن تعثروا في بداية الطريق، ولكن من بعض القيادمة الذين عليهم واجب تقديم النموذج والمثال في التشبع بأعراف المهنة وقيمها الخالدة.
دعك من بعض الحالات المستعصية على التصنيف والاستيعاب والحل ولنتأمل في حالة أخرى يجسدها النقيب الأستاذ عبد الرحيم الجامعي الذي توقف زمنه النفسي عند سنوات السبعينات ولم يتمكن لعوائق ذاتية وبنيوية عميقة من الانعتاق من كهف أفلاطون حيث المرء لا يرى الأشياء الحقيقية بل يرى ظلالها المتحركة ويظن بها حقائق.
لذلك قلما تقرأ للسيد النقيب ذ الجامعي كلاما علميا رصينا مؤسسا على مقتضيات قانونية وآراء فقهية وأحكام قضائية. مقال علمي ثري بالأجوبة الهادئة عن إشكالات قانونية دقيقة بالاحتكام إلى ما يفترض أنه راكمه من معرفة واسعة كنتيجة طبيعية لممارسة ممتدة على أكثر من أربعة عقود داخل المحاكم.
ولكن للأسف غالبا ما تكون الخيبة بحجم الانتظارات، وغالبا ما يكرر السيد النقيب الجامعي نفسه بذات الشعارات المنقوعة بأسلوب انفعالي، وثوقي، منغلق على قناعاته الخاصة، يمتح من قاموس ماضوي جامد خارج إيقاع الزمن المغربي المتحرك، فضلا عن عشق غير صوفي لممارسة الأستاذية على الجميع أفرادا ومؤسسات بوهم امتلاك ناصية الخطاب الحقوقي الممانع، وشرعية التخندق التاريخي في صفوف المعارضة الملتحفة بالسواد.
مناسبة هذا الكلام ما اجترحه السيد النقيب ذ. الجامعي في حق الأستاذ لحسن الطلفي، رئيس غرفة الجنايات الاستئنافية بالدارالبيضاء، قيدوم قيادمة قضاة المادة الجنائية في المملكة، الزاهد الناسك المتعبد في محراب العدالة، العدل، الثقة، الورع، الوافر علما، وعملا ونزاهة وحيادا ونأيا عن الشبهات وخوارم المروءة. القاضي النقي، التقي الذي أمضى أكثر من أربعين سنة في تصريف العدالة الزجرية ولا يملك من حطام الدنيا شيء، والذي لم يتجرأ أحد يوما على نعته بسوء. وحتى الذين يختلفون معه، يشهدون له بالنزاهة، والدقة، والطاقة البدنية والذهنية الفائقة التي تمنحه القدرة على الصمود في جلسات ممتدة لساعات طوال، من الاثنين إلى الجمعة، بدون كلل أو ملل.
الأستاذ الطلفي الذي يعتبر تجسيدا للأمن القضائي بشهادة العديد من رجالات القانون المبرزين، لم يجد السيد النقيب ذ عبد الرحيم الجامعي ما يجود علينا به في هذه الأيام النحسات غير القول المؤلم الذي أعترف أنه ترك في نفسي مرارة لم أجد لها من شفاء غير الكتابة دواء.
لنقرأ بعضا مما كتبه السيد النقيب الأستاذ عبد الرحيم الجامعي ونشره بالأمس موقع اليوم 24:
( ...الحكم على توفيق بوعشرين بـ15 سنة سجنا يظهر أن القضاء يحن للعهد الماضي ولسنوات الرصاص. وأعتقد أن القاضي الذي يمضي سنوات من العمل بعد بلوغه سن التقاعد يصعب عليه أن يمارس القضاء بشكل رزين وواع، لأن الإنسان كيفما كانت قدرته يضعف، وقواه الصحية والنفسية تضعف، والقاضي كباقي البشر مع التقدم في السن يبدأ في فقدان البوصلة. إن السيد الطلفي أتعبته المهنة وأتعبه الزمن وكان من الأفضل له أن يرتاح ويتوقف عن ممارسة القضاء. ومن سوء حظ العدالة أن بعض من مارسوا القضاء في عهد الرصاص لازالوا يمارسونه اليوم في وقت يجب أن تشيع فيه قواعد العدالة والقانون الدولي وحقوق الإنسان...).
الخطير في هذا الكلام، ليس أنه لا يليق صدوره عن نقيب رفيع المقام، ولكن لأنه يؤسس لنظرية دور البيلوجيا في انتقاد الأحكام، وتصفية الحساب مع القاضي حتى ولو لم تكن عضوا في هيئة دفاع القضية، بل وحتى ولو لم تطلع على ما في الملف من أدلة ومستندات، وما أفضى به الأطراف والشهود من أقوال وتصريحات. ولا ما اتكأت عليه الأحكام من علل وحيثيثات.
علما أن القاضي والمحامي مثل العسل النافع كلما امتد بهما الزمن كلما كانت أحكامهما ومرافعتهما، دواء ناجعا للأسقام المستعصية. لذلك العديد من الأنظمة القضائية المقارنة تحتفظ ببعض القضاة مدى الحياة، فقضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية وهي أعلى هيئة قضائية لا يتقاعدون حتى توافيهم المنية. ولو كان التقدم في السن معيارا للحكم على جودة الممارسة لكان السيد النقيب ذ الجامعي الأولى بالتقاعد مخافة تعريض مصالح موكليه للضياع.
إن الإشكال اليوم كما تعكسه رسائل الخسران التي ما فتيء يوجهها السيد النقيب الأستاذ عبد الرحيم الجامعي أنها تشرعن لمنحى جديد متنام في التمرد على سلطة القانون كما تجسدها الأحكام الصادرة عن قضاء مستقل. تمردا شعاره التيئيس والتبخيس، والضرب بعشوائية وشعبوية في مختلف الهيئات والأشخاص والمؤسسات عن سابق حقد وعند.
ومع ذلك لا نملك غير أن نلتمس للزميل الأعذار فللسن أحكامه، ولذهنية جيل النكبة ترسبات قاعدية من سوء الظنون وكثرة التوجسات والإحباط من ضياع الفرص، وتراكم الانتكاسات أمام شح الموارد والمكافئات، وغربة الصوت النشاز وسط تزايد أوهام الذات عن قداستها ...
ملحوظة:
هذه التدوينة صادرة عني بصفتي باحثا قانونيا ومهتما بشؤون العدالة، ولا علاقة لها بصفتي المهنية.