رأي

سعيد يقطين: ما قبل النص.. من الكتاب إلى الشاشة

إن المتحمسين للإبداع الرقمي، باعتباره جديدا، والمعارضين له لأنه يستدعي عادات مختلفة عما ألفوه، لا ينتبهون عادة إلى طبيعة العلاقة التي تربط بين أي نص بأي وسيط. ولعل إعادة النظر في طبيعة علاقة الكتاب بالشاشة، أو الورقي بالرقمي تبين لنا بالملموس أن أي وسيط جديد يأتي لتجاوز الإكراهات التي تم التوصل إليها مع تطور الاشتغال بالوسيط السابق، كي لا أقول القديم. وفي الوقت نفسه يجعل ما كان يجول في ذهن منتج النص ضمنيا، وكانت تلك الإكراهات تمنعه، قابلا للتحقق بسبب ما صار يوفره له هذا الوسيط الجديد من إمكانات قصر عنها الوسيط السابق.
تفرض علينا علاقة النص بالوسيط طرح سؤال: ما هو الكتاب؟ وما هي الشاشة؟ وما هي حدود كل منهما؟ والإمكانات التي يمكن أن يتفرد بها أحدهما متجاوزا غيره؟ يستدعي هذا السؤال إعادة النظر في فهم ما هو النص الذي يمكن أن يتقدم من خلال الكتاب، وماذا يطرأ عليه حين نعاينه من خلال الشاشة؟
لقد تدخلت عوامل كثيرة في تحديد مفهوم النص، أو ما يتصل به، على مرّ العصور. وكانت تتحكم، في كل التصورات حوله، طبيعة الوسيط الذي يتحقق من خلاله. إن تعريفات النص أو الخطاب المتحقق من خلال الكتاب، مثلا، جعلت النظريات المتعاقبة تتعامل معه تبعا للصورة التي جعلته يبدو لنا من خلالها متخذا بعدا خطيا يقرأ من اليمين إلى اليسار، ومن البداية إلى النهاية، وتقليب الصفحات للانتقال في كتلته النصية لتشكيل المعنى الذي يحمله. أما الشاشة فبسبب اختلافها عن الكتاب، جعلتنا نتحدث ليس عن النص، ولكن عن «النص المترابط» لأن طبيعتها «المادية» تستدعي ألا نتعامل معه، وفق ما تمليه طبيعة الكتاب المادية المختلفة. إن طبيعة الشاشة تفرض علينا معاينة فقط ما يمكن أن تستوعبه من النص، لكن بقيته محجوبة عنا. ولقد دفعت هذه الطبيعة إلى ضرورة إيجاد المصعد الذي يسمح لنا بالانتقال من الأعلى إلى الأسفل، أو من خلال روابط ننتقل بواسطة النقر عليها إلى ما لا يظهر لنا من النص الذي نتعامل معه. من الكتاب إلى الشاشة نرى أن الملاءمة أدت إلى الانتقال من النص إلى النص المترابط، الذي يتناسب مع صفحة الفضاء الشبكي. وكل منهما يسمح بتقديم تصور خاص للنص وفق ما يفرضه علينا هذا الوسيط أو ذاك.
لم تبدأ نظرية الوحدة العضوية تتلاشى من الأذهان، جزئيا، إلا مع البنيوية، وتحليل الخطاب الذي كشف لنا أن أي خطاب ليس سوى متتالية من الجمل المترابطة في ما بينها.
إذا كان الوسيط الورقي أو الرقمي قد فرض علينا، كل واحد منهما، طريقة محددة في تقديم النص، ومحاولة تحديده، وجعلنا بذلك لا نلتفت إلى الكيفية التي يتشكل بواسطتها قبل أن يحتمله هذا الوسيط أو ذاك، صار لزاما علينا التساؤل عن ماهية النص (المادة المنتجة) وكيفية تكونها وتطورها، في ذهن منتجها، قبل أن يعطيها الصيغة التي فرضها عليه هذا الوسيط أو ذاك؟ إن البحث في «ما قبل النص» أو تكونه ضرورة لفهم علاقة النص بالوسيط. وتبعا لذلك، نجد أن أي نص، سواء تقدم إلينا من خلال الكتاب، أو عُرِض علينا من خلال الشاشة، لم يكن سوى بنيات (شذرات) تم الربط بينها لتشكيل النص وفق قواعد الأجناس والأنواع التي يسير عليها. وفي ضوء ذلك كان جمع تلك البنيات تحت عنوان في كتاب بين دفتي غلاف. تبعا لذلك يمكننا التساؤل: ما هو الديوان الشعري؟ أليس عبارة عن مجموعة من القصائد كتبت في فترات متباعدة، وجمعت ورتبت على حروف القافية، أو حسب الأغراض، وكل قصيدة منها كتبت مرتبطة بأزمنة ما، ثم كان جمعها بعد إعادة بنائها لتستوي قصيدة متكاملة؟ أليست المصنفات والمؤلفات، كيفما كان نوعها سوى شذرات نصية ظل يجمعها أصحابها خلال فترات تلقي العلم، ودبجوا لها مقدمة تبين طبيعة ما تتضمنه من مواد متعددة ومتفرقة بعد أن تبينت لهم قيمتها؟
إن سؤال: ما هو الكتاب؟ لا يمكن إلا أن يسلمنا إلى اعتباره بنيات، أو شذرات، تم الربط بينها داخل جلدتين لتكون ذات معمار نصي خاص يبين هويتها، ويكشف انتماءها الجنسي أو النوعي. ولقد فرض هذا الوسيط إمكانية التعامل مع الكتاب على أنه ذو وحدة بنيوية ودلالية يستحيل فهم النص بدون وضعها في الاعتبار. لقد جاءت النظرية التي تدافع عن الوحدة العضوية للكتاب وبالتالي للنص لتحول بيننا وبين الانتباه إلى طبيعة النص خلال تشكله، لأنها كانت تتعامل مع النص إبان اكتماله، أي من خلال بنائه كما قدمه الكاتب. ولم تبدأ نظرية الوحدة العضوية تتلاشى من الأذهان، جزئيا، إلا مع البنيوية، وتحليل الخطاب الذي كشف لنا أن أي خطاب ليس سوى متتالية من الجمل المترابطة في ما بينها. لكن مع ذلك ظلت فكرة النص دالة على أننا أمام بنية كبرى تتشكل من بنيات صغرى تجمع بينها مقومات متعددة السمات والمقاصد.
مع الشاشة، والنص المترابط، بتنا أمام ضرورة الانطلاق مما قبل النص لتأكيد أن بناءه واكتماله يتخذ معها صورة مختلفة يفرضها هذا الوسيط الجديد.